مقالات

عبد الرحمن جليلاتي يكتب عن الانتقائية في جلد الذات … سمير سعيفان نموذجاً

كتب الأستاذ سمير سعيفان منذ أيام على صفحته على الفيسبوك رأياً جلد فيه السوريين على طريقة تعاطيهم مع الثورة، وذكر أن عليهم “لوم أنفسهم قبل لوم الآخرين” مما حفز لدي الدعوة للرد عليه مدافعاً عن موقفنا كشباب عاصرنا أحداث الثورة وكنا شهوداً على بداية الأحداث والأخطاء التي حصلت من المعارضة التي عانت عطباً ذاتياً كما وصفها “د.برهان غليون” في كتابه الأخير، وكيف أن شبابنا حاولوا جاهدين توجيهها بعيداً عن أمواج السياسة المتلاطمة في منطقة صعبة كمنطقتنا العربية، متحصنين بقوة المعرفة فقط بدون أي إمكانيات تذكر، على عكس المعارضة التي منحت بعض الفرص والإمكانيات لكنها فشلت في القيام بدورها القيادي،  من هنا أجد نفسي مضطراً لأن اشرح له وجهة نظرنا عندما نلوم الأصدقاء قبل الأعداء على أخطائهم بحق ثورتنا وما آلت إليه أوضاعها، مع توجيه اللوم أيضاً للمعارضة الكلاسيكية التي أنهى السيد سمير رأيه بدعوتها “لعمل منظم تقوم به شخصيات معارضة غير تلك التي تصدرت المشهد”! ومع انتقاد أنفسنا بنفس الوقت دون جلد للذات.

في كتاب إعادة التوازن الذي أصدره معهد بروكنغز قبل الربيع العربي، وشارك في كتابته المفكر الأمريكي مارتن أندك، والذي صدر مع بداية تولي أوباما الحكم ذُكر أنه يجب نقل بؤرة تركيز الاهتمام من الخليج إلى طهران، أي إلى الضفة الأخرى من الخليج العربي، وبدء الانسحاب التدريجي من المنطقة لأنها لم تعد ذات أهمية كبرى بعد الاكتفاء الأمريكي من النفط وإعادة التمركز في المحيط الهادئ.

نظرية استعادة التوازن والتي اتخذها أوباما عماد استراتجيته، تصب بشكل أو بآخر في مصلحة إسرائيل، ومشروعها القائم على تحالف الأقليات في المنطقة، فباختصار إيران أهم بالنسبة لإسرائيل من كل الدول العربية، وكذلك تركيا وحتى أثيوبيا أهم من العرب، وهو مبدأ المحيط الذي يحكم السياسة الخارجية للكيان الإسرائيلي، اقتناع أوباما بنظرية استعادة التوازن أثرت على حكمه على الأحداث وصبت بشكل أو بآخر في مصلحة إيران.

تركيا أيضاً كانت لديها قبل الربيع العربي مشاريعها، وكانت فكرة فضاء شرق المتوسط التي طرحها داوود أوغلو فكرة براقة خصوصاً أنها تكرس السلام الاقتصادي في المنطقة قبل السلام السياسي، وكان بشار قد وافق على أن يكون جزء منها رغم أن ذلك يعني عضوية منتدى اقتصادي جنباً إلى جنب مع إسرائيل حتى قبل توقيع معاهدة سلام.

من هنا كان توقيت الثورة السورية خطأ بالنسبة لكل هذه المشاريع الاستراتيجية التي كانت تحيط بسورية، لكن يبقى السؤال هل أخطأ السوريون في كيفية إدارة ثورتهم؟

الجواب …نعم هناك أخطاء لكن هذه الأخطاء لا تكاد تذكر امام الأخطاء التي ارتكبها غيرهم، ورأينا بأم أعيننا كيف أن تناحر العرب فيما بينهم انعكس على ثورتنا سلباً، من خلال دعم أطراف بالمعارضة دون أخرى، واكتشفنا لاحقاً أن مقولة تشرذم المعارضة التي سمعناها آلاف المرات هي وصف دقيق لحالهم! لذلك سأسرد وجهة نظري للأحداث محاولاً توزيع المسؤولية بشكل عادل.

الخطأ الكارثي الأول كان دمج الثوري بالسياسي، وقد كنا ضد الفكرة لأن الثورات قد تؤخذ سياسياً قبل أن تؤخذ عسكرياً، لذلك رفض بعضنا الدخول في المجلس الوطني، واعتبرنا أن غايته الضغط على الثورة لتتقاسم الصلاحيات مع النظام وتندمج في خطة إصلاح للنظام وليس تغييراً كاملاً ناجزاً لبنية النظام، وقد مارست كل الدول وخصوصاً الصديقة كل الضغوط الممكنة لإنجاز ذلك، ونجحوا في نهاية الأمر.

من وجهة نظرنا كان من غير الممكن تشكيل جسم سياسي للثورة وجره للتفاوض قبل أن تتعادل القوى بين النظام والثورة (لأن ذلك يعني الدخول في مفاوضات من باب الضعف إذ إن الثورة لم تكن قد اشتد عودها بعد وتجذرت اجتماعياً نظراً لأن المدن الكبرى كانت خارج المعادلة آنذاك) وأشدد على الثورة ولا أقصد هنا المعارضة “الكلاسيكية” التي ينتمي لها السيد سعيفان والتي اتسمت بالفشل في مواجهة النظام، ولم يكن لها ارتباط بالشارع لا من قريب ولا من بعيد ولم تكن هي من تقود المظاهرات في الشارع، بل كانت عبئاً عليه في كثير من الأحيان.

كانت استراتجيتنا كشباب نعتبر أنفسنا جزءاً من الثورة تتفق مع ما جاء في كتاب ثورات بلا قيادات للكاتبة “كارين روز” التي تنبأت بالتغير القادم، وقالت إن وسائل التواصل الاجتماعي اليوم تسهل مهمة المواطنين في التنظيم والقيادة وتحل محل القيادات الكارزمية التي كانت مهمتها قيادة الجموع الغفيرة قبل ظهور تلك الوسائل، لذلك كنا نرى أن الوقت مازال باكراً جداً لتشكيل جسم سياسي للثورة، وكنا نعتقد أن المجتمع الثوري السوري سوف يفرز قيادات اجتماعية قادرة على سد الفراغ الحاصل في قمة الهرم القيادي الثوري وأن المسألة مسألة وقت قبل أن تظهر تلك القيادات.

تورط للأسف المفكر عزمي بشارة (والذي يعمل لديه اليوم السيد سعيفان) وتسرع في دعوة تلك المعارضة الكلاسيكية لاجتماع فندق الريتز الشهير، بل تورط أيضاً الاخوان المسلمون وضغطوا على كل القوى التي كانت شكلت حديثاً ومازالت هشة بعض الشيء للدخول في المجلس الوطني، كانت الغاية غير المعلنة من وجهة نظرنا هي الانخراط في مباحثات مع النظام لتقاسم الحكم، على الأقل هي رغبة الدول التي تقف وراء تشكيل المجلس الوطني، وكانت التجربة الليبية ماثلة أمام أعينهم، وكانوا يظنون أن بإستطاعتهم التأثير على النظام لقبول الأمر الواقع، وجره لتقاسم الحكم مع المعارضة، لم تكن تقديراتهم للأسف مبنية على معرفة عميقة لبنية النظام الذي لن يقبل المشاركة تحت أي ظرف.

نحن هنا أمام قوة هائلة إعلامية ومالية أثرت بالطبع على سير الأحداث وطحنتنا نحن الذين كان لنا وجهة نظر مختلفة.

عام 2012 وبعد الانهيار المتسارع للنظام استشعرت القوى التي عرفت لاحقاً بقوى الثورة المضادة الخطر الكامن جراء مشروع أوباما في المنطقة، وبدأت بمواجهته، وكان لابد من الوقوف بوجه الربيع العربي الذي اعتبر جزءاً من مؤامرة كبرى على المنطقة، وقد كان أداء المجلس الوطني السوري سيئاً للغاية بحيث لم يستطع مجاراة الأحداث على الأرض، وظهرت قياداته كما لو أنها لعبة بيد بعض القوى الإقليمية.

بعد ذلك حاول المحور الذي دعم تشكيل المجلس الوطني خلق كيان جديد يكون مقنعاً للمحور الآخر لكي يتجنبوا الصدام المباشر، فأنتجت المحاولة الائتلاف الوطني والذي لم يكن التغيير فيه جذرياً، فكان نسخة مشوهة عن المجلس الوطني.

بدأ المحور المقابل تغيير مواقفه منذ تلك اللحظة وانقسم المشهد إلى الجبهتين، جبهة التحالف المضاد للثورة، والتي بدأ التنسيق بين دولها يتصاعد بوتيرة أعلى، وبدؤوا العمل على الطعن بالثورات وتشكيل موقف موحد ظهر بشكل واضح بعد الانقلاب في مصر، حيث تدخلت قوى الثورة المضادة ودعمت أسلمة الثورة في سورية للأسف في خطة لتشويه الثوار ووصمهم بالإرهاب، كما ساهمت كذلك وسائل إعلام كبرى في ذلك بغباء منقطع النظير، ورأينا كيف انعكس ذلك سلباً على الجميع وبدأ التراجع الفعلي للثورة.

وعلى النقيض جبهة قطر تركيا أمريكا إيران التي اختلفت فيما بينها على النتائج فانقسمت على نفسها بين إيران أمريكا اللتان كانتا منخرطتين في مباحثات سرية نووية، وبين تركيا وقطر اللتان لم يكن تقديرهما دقيقاً وظنتا أن أمريكا تدعم توجهاتهما ليتفاجؤا لاحقاً بأن أوباما كان يعمل عكس مواقفه الإعلامية، وهذا يعني بلغة بسيطة أن الولايات المتحدة كانت تمارس النفاق السياسي، وأن أوباما كان من الأنانية بمكان أنه من أجل تحقيق إنجازه الشخصي بتوقيع اتفاقية مع إيران، ضحى بسمعة الولايات المتحدة وجعلها تتحمل المسؤولية الأخلاقية عن سقوط مئات آلاف الضحايا على يد النظام المجرم، ولم يكن هناك شيء ليقنعه لا الشيخ معاذ ولا حتى نلسون مانديلا ذاته لأنه كان يكن احتراماً للأمة الفارسية متأثراً ببعض الكتاب الأمريكيين من أصول إيرانية كوالي نصر وغيره، وينظر للعرب نظرة غير سوية ظهرت بشكل واضح عندما صرح “أن لديهم ميل للانتحار الجماعي” بالإضافة طبعاً لمشروع مارتن أندك آنف الذكر، وهو ما كتبه “بن رودس” مستشاره الخاص في كتابه “العالم كما هو” حيث ذكر أن أوباما بعد توقيع الاتفاق مع إيران قال لهم “لقد أنجزنا الأمر لا أريد أن اسمع شيئاً عن سورية” هذا عدا كذب السفير الأمريكي روبرت فورد عندما أعلن عشرات المرات بأن الولايات المتحدة لن تتدخل في سورية وإذ بها تتدخل بشكل فج وقبيح لدعم جماعة إنفصالية ثم تضع يدها على آبار النفط السوري!

هنا ليأذن لنا السيد سعيفان فمن حقنا أن ندين كل هذا النفاق والكذب والتصرفات غير الأخلاقية من كل من ادعى صداقة الثورة، بغض النظر عن أخطائنا كسوريين.

بعد كل هذه الأحداث كان هناك خطأ آخر لايقل خطورة عن تشكيل الجسم السياسي وهو عدم بناء مؤسسات ثورية مستقلة إعلامية وسياسية موحدة ومنفصلة عن كل ما كان قائماً، وحصل التشرذم والتشظي وظهرت فصائل كالفطر على كامل التراب السوري، وبدأت تتقاتل فيما بينها على الفتات فلا هي وضعت نفسها في تصرف الجسم السياسي ولا هي شكلت قيادتها الموحدة الخاصة، خصوصاً بعد أن انسحب النظام من مناطق ريفية شاسعة، غير ذات أهمية، أو ذات كثافة سكانية عالية ليستطيع تركيز قوته في المناطق الأكثر أهمية والتي سماها سورية المفيدة.

الانسحاب من الموصل من قبل الحكومة العراقية الموالية لإيران وتسليمه للإرهابيين كانت قاسمة بالنسبة لمعسكر الثورات، فقد استطاعت إيران وحلفاءها جر الولايات المتحدة للحرب بحجة محاربة الإرهاب، واستخدمت القوة العسكرية الأمريكية الغاشمة ضد الثورة السورية فكانت طائرات التحالف تقصف جنباً إلى جنب مع طائرات النظام كل ماهو خارج عن السيطرة بحجة مكافحة الإرهاب.

كلام سمير سعيفان اليوم يظهر أن المعارضين السوريين “الكلاسكيين” للأسف لديهم قصور في الرؤية الشاملة للصورة، وانتقاده لجزء من المعارضة يأتي من باب تهافت التهافت، ومن غير العادل اختزال الأخطاء الكارثية الكبرى التي قامت بها دول كبرى وإقليمية  أثرت سلباً على الثورة بأخطاء صغيرة حصلت هنا وهناك.

النظام تفتت بشكل واضح اليوم وجبهته باتت أضعف من أي وقت مضى، والتعامل معه بات خطراً للغاية، ومشاريع مارتن أندك وأمثاله باتت من الماضي، واعتقد أن الانجرار وراء تبادل الاتهامات بمن أخطأ بين يمين ويسار ومعارضة وثوار، هو مطلب أعداء الحرية الذين يحاولون تكريس الفرقة بيننا، وإعادة هيكلة نظم الاستبداد، والمعركة معهم لم تنته بعد ومازال أمامنا الكثير من التحديات أهمها بناء البوصلة التي ستنير للجيل القادم طريقه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى