مقالات

غسان شربل – ممرات آمنة للجثث

مع مرور ذكرى مئوية اتفاقية سايكس- بيكو، كان ثمة مستويان متناقضان من «النحيب العام» متعلقان بالأدوار التآمرية لـ «الآخر/ الغرب» في أحوالنا، وهما -على رغم تناقضهما- يصدران عن المصدر نفسه، الأول تنديدي بما فعلته تلك الاتفاقية وما تلاها من تفاهمات، بأحوال شعوب المنطقة، من تقسيمٍ وتوزيعٍ ورسمٍ للخطوط والحدود في ما بينها. حيث لم تأخذ تلك القوى الدولية رأي هذه الشعوب ومصالحها في الاعتبار. مستوى الشجب الآخر كان يتعلق بما نعيشه من أحوال، حيث رأى أصحابه أن تلك القوى الكُبرى تركتنا لمصائرنا وحيدين، في مواجهة الاستبداد والقوى الإقليمية والتنظيمات الراديكالية، وفي قول أكثر موضوعية، بعضنا في مواجهة بعض، من دون أن تهتم بالخسائر الفادحة التي ندفعها وسندفعها كمُجتمعات جراء مؤامرة تُركنا وحيدين لنواجهها.

في الحالتين معاً، ثمة ميول واضحة للإيحاء بوجود مؤامرة ما تُحيكها هذه القوى الكبرى على شعوب المنطقة ومجتمعاتها، ولدى كل جماعة روايتها الخاصة، بحيث تحرص على حصر جوهر تلك المؤامرة بجماعتها فحسب.

لنتخيل مثلاً أن الدول الكُبرى قبل مئة عام لم تتدخل في مصائر شعوبنا، وتركتها تقرر وحدها ما تراه مُناسباً من أنظمة حُكم وخطوط للفصل في ما بينها. هل كان ليحدث غير حروب أهلية مُدمرة مثلاً، بين قوى اجتماعية قوية ومحافظة ومُستقرة موالية للإمبراطورية العُثمانية وأخرى ثورية وقومية مُنتفضة عليها، حيث كانت الإمبراطورية العُثمانية ستستميت في دعم المُحافظين المُتدينين كي يستمروا في الدفاع عن هيمنتها وسُلطتها القروسطية، أياً كان حجم الضحايا والتدمير الذي سيطاول كُل البُنية الاجتماعية الأهلية في كُل مُجتمعات المنطقة. تلك الحروب الأهلية المُدمرة كانت ستسود المُدن الكُبرى في كل ربوع المنطقة، وكان القرويون سيدمرون المدنيين وينهبونها، والمحافظون سيرتكبون مجازر بحق الثوريين، أو العكس، وهكذا على كُل المُستويات والجغرافيات.

وعلى الوتيرة ذاتها، كانت ستندلع الحروب الشرسة بين الجماعات القومية والدينية التي ظهرت بهوياتها الحادة على مسرح التاريخ وقتها، تلك التي لم تكن تعرف من قبل خطوط فصل بينها، وبالدرجة ذاتها كانت تفتقر لكُل أشكال الحُكم المُشترك والتوافق وآليات صناعة السُلطة والقرار وشرعية الحُكم. كانت كذلك وهي تحيا في جُغرافيات بالغة التداخل، وحيث كانت السطوة العُثمانية السُلطانية وحدها الكفيلة بمنع الاحتراب بين تلك الجماعات. فأي حروب كانت ستندلع بين الكُرد والأرمن مثلاً، وبين العرب والتُرك، وبين الموارنة والمُسلمين، وبين التُركمان والإيزيديين، وبين العلويين والسُنة … الخ، حيث ليس لا تصح تماماً تلك المروية الرومانسية التقليدية حول تعايش مُجتمعاتنا بسلامٍ ووداعة. وما كانت حروب الجماعات في منطقتنا خلال نصف القرن الكامل الذي سبق واقعة الحرب العالمية الأولى، منذ حرب جبل لبنان في 1860 بين الدروز والموارنة وحتى المجزرة المروعة بحق الأرمن والآشوريين السريان عام 1915، إلا دلالة على مدى سطحية ووظيفية تلك الرواية عن التعايش.

كانت تلك الحروب البينية والأهلية كُلها ستجري في ظل عاملين بالغَي التسعير، الأول يتعلق بفقدان كُل شعوب المنطقة أي أعراف ومواثيق ومؤسسات حقيقة للحُكم، سوى تلك القروسطية الموروثة عن الدولة العثمانية، والتي انهارت تماماً مع انهيار تلك الدولة نفسها، فالدستور والقانون العام والبرلمان واحتكار الدولة وجيشها العنف والخطط التنموية والمؤسسات التعليمية المدنيّة… إلخ، كانت مما فُرض على مُجتمعات المنطقة من قِبل تلك القوى التي قسمت وتوزعت جغرافياتها وهيمنت عليها.

والأمر الآخر يتعلق ببقاء قوتين إقليميتين وحيدتين، نافذتين ومُنظمتين، هما الدولة التُركية الحديثة التي ورثت كُل الروح التوسعية العُثمانية وإن بنزعة بالغة القومجية، وطموحات الدولة الإيرانية الحديثة التي لا تقل عن نظيرتها التُركية، فالعائلة البهلوية كانت منذ أوائل سنوات حُكمها تسعى لتحقيق نفوذ و «مجدِ» استثنائي، لترسخ سُلطها الملكية الحديثة، وبأي ثمنٍ كان.

كانت الدولتان ستسعيان كُل من طرفه، لدعم جماعة سياسية أو أهلية ما، وتستغلان قدر المُستطاع الاهتراء الداخلي في كُل مجتمعات تلك الحُقبة، لتحول رموزه إلى وكلاء لنفوذها في تلك الدول الحديثة.

وفي النهاية، هل أن مجموع ذلك كله مما نفترضه شيء آخر غير وصف لأحوالنا الراهنة، من حروب داخلية وحروب بين الجماعات وتدخلات إقليمية لا حد لها؟، وهو ما يعني في المحصلة أن الأمر لا يتعلق بالخارج إلا بشكل نسبيٍ، وما تحويل هذا الخارج إلى فاعل مُطلق سوى أداة لنفي المسؤولية عن الذات، وقبل نفي المسؤولية نفي فظاعة الأفعال.

المصدر : الحياة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى