مقالات

باسل أبو حمدة – العطالة السياسية جذر القضية السورية

استحوذت حالة الاستعصاء السياسي على جبهة الربيع السوري على شتى صنوف التحليلات السياسية والفكرية والاجتماعية التي أفضت إلى تشخيصات صبت في معظمها في خدمة حالة مماثلة من الاستقطاب الحاد بين معسكرين رئيسيين، الموالاة والمعارضة، راحا يتراشقان الاتهامات حول مسؤولية ما آلت إليه الأحداث من صدوع وكوارث، لكن أيا منها لم يصل، بشكل حاسم، إلى خط الاستدراك النهائي والبديهي في ما يتعلق بالمعالجات المنطقية الممكنة للخروج من النفق المظلم الذي طال أجله فاتحا الجرح السوري على امتدادات زمنية مجهولة. خط الاستدراك هذا يتخطى دائرة المقاربات السياسية العابرة، في هذه الحالة، ويشهر بوضوح الحاجة إلى مقاربة تشريعية – قانونية حول ماهية الكيان السياسي السوري بحد ذاته، مقاربة من شأنها أن تنفض الغبار عن أوهام حسم المعركة عسكريا وأن تزيل مفردتي الانتصار والهزيمة من القاموس السياسي السوري المعاصر في هذه المرحلة البدائية من التاريخ السياسي المعطل للبلاد.

في منعرجات الثورة السورية المعاصرة، حتى رأس النظام السوري أقر، ذات مرة، بفشل سياسي وفشل أخلاقي وفشل على المستوي الوطني، لكنه لم يجرؤ على الاعتراف بمسؤوليته التاريخية المطلقة عن ذلك الفشل الذريع. وبذلك يكون قد أعاد التأكيد على ما ذهبت إليه مختلف أطياف المعارضة السورية نفسها منذ زمن بعيد يمتد إلى ما قبل اندلاع الثورة السورية المعاصرة وشقيقاتها العربيات، والذي يفيد بأن الوصف الأقرب إلى واقع ما يجري في سوريا لا يتعدى، عمليا وأكاديميا، عبارة الدولة الفاشلة، التي صاحبت ملامح الإخفاق والخذلان الدامغة فيها إرهاصات تشكلها الأولى في كنف لعبة الأمم ومنظومة المحاصة الجيوسياسية التي كانت سائدة عشية الاستقلال وأثره، بينما تكرست تلك الملامح وتفاقمت وتصدرت المشهد كله مع تكريس حكم العائلة، عائلة الأسد، وامتداده الزمني القياسي، ما أفضى إلى تصفية مطلقة لشروط الحياة السياسية، التي يتطلبها أي كيان سياسي يريد وصف نفسه بالدولة.

لا ترمي هذه المقدمة إلى مراجعة التاريخ السياسي لسوريا بعد الاستقلال أو إثره، بقدر ما هي محاولة لضبط أوتار التشخيص السليم للداء المستفحل المستعصي على العلاج وما يستدعيه من ضرورة للتركيز على معالجات تستجيب له وتقدم الترياق المناسب لحالة الاستعصاء الدامية على هذه الجبهة من ربيع عربي كتب له أن يتمهل الخطى ولو إلى حين. والداء في هذه الحالة يتجلى بوضوح بدولة فاشلة عمرها مديد وقواعدها راسخة في كل مظاهر حياة المجتمع السوري ومكوناته لا سيما على مستوى بناه الفوقية، الأمر الذي شكل ولا يزال العقبة الرئيسية أمام نجاح أي مبادرة سياسية أو تسوية سياسية بين الأطراف المتصارعة على الأرض، تلك المبادرات التي، وإن كتب لواحدة منها الحياة، فإنها لن تخرج، بأي حال من الأحوال، عن دائرة الحلول الترقيعية غير القابلة للحياة طويلا، ولن تعدو كونها تسويفا لاستحقاق التغيير السياسي في سوريا، ومد الدولة الفاشلة القائمة هناك بوسائل إضافية تساعدها على البقاء إلى ما لا نهاية.

أما المتغيرات الاستثنائية الطارئة على مشهد الثورة السورية المعاصرة خلال السنوات السبع الماضية من عمرها، على غرار «العسكرة» و»الأسلمة» و»التطييف» والتدخل الخارجي ومجمل الاحتلالات للأرض السورية وشأن سكانها العام، فإنه لا يمكن قراءتها خارج صندوق الدولة الفاشلة سيئة الصيت ذاتها، التي تنظر إلى استحقاق التغيير السياسي من منظور وجودي حاسم وعلى قاعدة الغالب والمغلوب، التي تتغذى على جراحات سائر مكونات الشعب السوري بمختلف مشاربه، والتي تشكل نقطة الارتكاز الوحيدة لحالة إنكار غير مسبوقة لتلك المكونات وشروط حياتها على مستوى الطموح المشروع في الانتقال من ظلمة الاستبداد إلى فجر الديمقراطية، لا بل إنه يمكن القول إن التداعيات الكارثية للدولة السورية الفاشلة قد فاقت كل التوقعات بعد أن تمكنت من شيطنة الثورة السورية الوليدة بعد استعصاء ومن جر قواها إلى مواجهات جانبية بعيدة كل البعد عن الهدف الرئيسي للثورة متمثلا بإسقاط نظام الطاغية وبناء دولة القانون والمواطنة مكانه.

خط الاستدراك الأول على المقلب الآخر، يشير، إذن، إلى ضرورة استدعاء المرتكزات التي قامت عليها الثورة السورية وإعادتها إلى مفرداتها الأولى المعبر عنها في وجع الناس ونبض الشارع وقواه الحية في الداخل والخارج، التي لا غنى عن حضورها القوي في أي حل سياسي يستجيب لمتطلبات تغيير حقيقي بعيدا عن أوهام التسويات الموضعية العابرة، التي يسعى النظام إلى تكريسها بأساليب رخيصة وقذرة سلاحها الإبادة الجماعية والحصار التجويع والتهجير ومزيدا من القمع، حيث لا تشكل الدعوات إلى وقف إطلاق النار وإبرام صفقة أو تسوية هنا أو هناك سوى خطوة على الطريق المفضي بالضرورة إلى الإيحاء بأن النظام (الدولة الفاشلة) جزء من الحل وليس العقبة الرئيسية أمامه، وكذلك تلك المنتديات والمؤتمرات التي تعقد في غير مطرح، والتي تفتقر إلى أدنى شروط التفاوض لا الحوار، لا لشيء إلا لأنها ناقصة التمثيل والأهلية. وليس المقصود هنا عدم مشاركة قوى سورية أخرى لها ثقلها في تلك الفعاليات العرجاء فحسب، بل لأن التشكيلات السياسية والعسكرية السورية المعارضة لا تزال في مرحلة التشكل الجنيني، التي لم تفصح بعد عن الشكل النهائي للوليد الموعود المؤهل عمليا لتمثيل الشعب السوري بمختلف مكوناته، والقادر على انتزاع حقوقه من بين فكي الأسد.

لا أحد ينكر الحاجة الملحة إلى حل سياسي يوقف شلال الدم ويضع حدا لمعاناة الشعب السوري، لكن ليس على قاعدة الدولة الفاشلة أو حالة «اللادولة» السائدة من أكثر من نصف قرن، وليس على قاعدة تجاهل مفردات طرأت على المشهد خلال محاولات النظام لوأد الثورة وفي مقدمتها ما يرقى إلى تسميته بالاحتلال الإيراني أو الاحتلال الروسي لسوريا والتركيز على مفردة واحدة من تلك المفردات متمثلة بالتطرف، تلك المفردات وغيرها الكثير التي تؤكد بشكل قاطع أن القضية السورية تضرب بجذورها العميقة إلى ما قبل الربيع العربي بزمن طويل تخللته أحداث جسام لا تقل أهمية عن نظيراتها الحالية وعلى رأسها اغتيال الحياة السياسية في البلاد على يد دولة فاشلة تستدعي بناء دولة غير فاشلة تتناقض تماما مع شبه الدولة الجاثمة على صدر الشعب السوري منذ زمن بعيد.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى