مقالات

خطيب بدلة – تقاعد صحّي في سورية الأسد

في سنة 1994 التمعت في مخيلتنا فكرةُ ترك العمل الوظيفي، والحصول على “التقاعد الصحي”. كنا خمسة أصدقاء، صديقي الظريف أبو النور، وأبو محمد، وأبو وردان، وأبو صبحي، وأنا.. قيل لنا إن بلوغ التقاعد الصحي يقتضي أن يتحقّق لدى الموظف حَدٌّ أدنى من العَجْز الجسدي مقدارُه 85%! القوانين السارية في “سورية الأسد”، تتطلب أن يبقى منك 15% فقط حتى تتقاعد صحياً، ومَنْ كان عاجزاً بهذه النسبة لا يمكنك أن تتصوّره ماشياً على قدميه، بل محمولاً في قفة مصنوعة من الخوص، أو زنبيل بلاستيكي، والأغلب أن يكون هناك جهاز تغذية اصطناعي “سيروم” معلق فوقه، وبعض الخراطيم والقناطر الداخلة إلى جسمه، أو الخارجة منه.

كان أبو النور في سن الخمسين، ولكن مَنْ يَره يعتقد أنه في الثلاثين، طويل القامة، أشقر، وجنتاه حمراوان، لا يوجد لديه سوى مرض واحد هو السكري.. أردت أن أقول إنه من العسير إقناع أي لجنةٍ طبيةٍ بأن هذا الشاب القوي يمكن أن يُمْنَحَ فرصةَ التقاعد الصحي، من دون أن يشك الناس بأنه قد دفع لأعضاء اللجنة رشوة كبيرة.

قبل أن نسافر إلى حلب، للمثول أمام اللجنة الطبية التي ستقرّر إحالتنا إلى التقاعد الصحي أو إعادتنا إلى العمل، بثلاثة أيام فقط، دخل شهر رمضان. ذهبتُ لزيارة أبي النور في مكتبه في مديرية مالية إدلب، قسم الجباية، فوجدت بابه مغلقاً. نقرتُ عليه وانتظرت لحظات، لم يأتني خلالها أيُّ جواب، فلجأتُ إلى الخبط على الباب بقدمي، ورحت أصيح: يا أبو النور، افتح يا أبو النور، وإذا به يفتح ويمشي في الممر، من دون أن يكترث بوجودي، فعدوتُ خلفه واستوقفته. قال لي: عفواً، من أنت؟ قلت: أنا خطيب، هل يعقل أنك لم تعرفني؟ ثم لماذا لم تفتح الباب حينما طرقته عليك؟ قال لي: تعال معي. ثمّة حديث مهم جداً سأحكيه لك. حديث تاريخي.

سحبني من يدي، ومشينا معاً نحو المكتب، فما إن دخلنا حتى أغلق الباب، وأقفله بالمفتاح، وقال لي: أنا الآن أعيش في العالم الافتراضي. .. وسكب كأسين من الشاي لي وله، وقال: اشرب. قلت له: صيام. قال: بل إفطار مع مسوّغ شرعي. أنا الآن، وأنت مثلي، عبارة عن 15% من الرجل، لا أسمع حتى الخبط بالأرجل على الباب، ولا أرى أكثر من ربع متر أمامي. أحتاج إلى سماعتين في أذني، ونظارتين سميكتين على عيني، وعكازتين قويتين تحت إبطيّ، وبخّاخ للربو، ويجب أن أحمل في جيبي الحبوب التي توضع تحت اللسان لحظة عبور الجلطة الدموية في الشرايين، وحبوب تخفيض الضغط، وحبوب معالجة البروستات، والكولون، إضافة إلى الأنسولين الذي يحقن تحت الجلد، كلما ارتفع السكري في الدم..

أخرج علبة سجائره، وأشعل سيجارتين لي وله، وقال: وبما أن الإنسان كائنٌ طموحٌ فأنا اليوم بدأت أصبو لأن أحصل على التقاعد الصحي الكامل، بدلاً من التقاعد النسبي، فقد أخبرني المحامي الأستاذ جورج، قبل قليل، إن الحصول على نسبة عجز 100% أفضل من التقاعد النسبي 85%، ففي هذه الحالة يدفعون لك مئة وخمسين ألف ليرة، عدا الراتب التقاعدي الذي يستمر مدى الحياة، وهذه النسبة يمكن أن يحصل عليها مرضى داء السكري حصراً.. وعندما قال لي ذلك، فرحتُ فرحاً شديداً، لأنني مصاب بهذا الداء، ولله الحمد!

لا تنظر إليَّ باستغراب هكذا، فأنا أعرف ما تفكّر فيه أنت، وهو أن المتبقي من الإنسان المتقاعد بنسبة 100% (صفر)، يعني أنه يجب أن يرمى في أقرب حاوية زبالة. وهنا أنا أريد أن أقول لك كلمتين فقط.. اقترب. قلت له: نحن وحدنا. قال: مع ذلك، أريدك أن تقترب.

فلما اقتربت قال لي: نحن، في ظل حكم حافظ الأسد، أصفار، سواء بمرض، أو بدون مرض.

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى