مقالات

أحمد عمر – لحسة من عسل كأس العالم

تراهن عبّود الإيطالي وسعدون الألماني، هكذا صار نسبهما مع كأس العالم الذي خلق أنساباً جديدة غير أنساب الدم، ولا تحلو المكاسرة من غير رهان. راهن عبّود على فوز الفريق الإيطالي، أما سعدون، فعلى انتصار الفريق الألماني، وكان الرهان قاسياً، ليس على مال الدنيا الزائل، فهو قمارٌ وحرام، وإنما على الشرف المصمّد: الخاسر سيحلق شاربه.

كان عبّود الإيطالي أشهر مدرس رياضيات في بلدتنا، وزميله سعدون يدرّس منهاج التاريخ في الثانوية العامة، الفرع الأدبي. أصيبا بحمّى كأس العالم، وللحمّى أعراضٌ أشهر من أعراض مرض التليّف الدماغي والتهاب السحايا. أما الطلاب، فجنود مجنّدة في حرب البكالوريا الطاحنة. خفقت أعلام فرق المونديال على أعالي البيوت، فقد بدأت الحرب. المخابرات أثبتت أنها جهاز في دولة ديمقراطية وشعبية، فلم تمانع في انتشارها، وسكتت، والسكوت علامة الرضى مع أن الولع بالكرة يأكل من حُبِّ سيادة الفريق، كما تأكل البحار من اليابسة في عصر الصوبا الحرارية، فلعلها رأت أنها أحكمت الحصار على الرعية، فأرخت الوثاق قليلاً. الحق أن عبود كان أسرع من زميله سعدون في الهيام بالكرة، يحمل خريطة المباريات معه، يسجل النقاط والأهداف، كما يفعل بدرجات الطلاب في درجات أعمال السنة.

تزوج المدرّسان متأخرين، مرحلة التأسيس لإعلان دولة الأسرة تطول في بلادنا أحقاباً، ففتح دارٍ أصعب من فتح القسطنطينية؛ مهر وعرس وأثاث.. والسبب في سبق عبود حب الكرة، كما رآه بعض الطلاب، غير جفاف دروس الرياضيات، وسوى اشتراكهما في الاسم، مرةً رياضةٌ للعقل، ومرةً رياضةٌ للجسم، أنّ الكرة درسٌ مهم في الهندسة، مسألة الهندسة في امتحان البكالوريا عادة كرة، في داخلها هرم، أو أسطوانة، أو دائرة، يطلب من الطالب حساب أحجامها وأطوال أضلاعها، وأقواس دوائرها بالتكامل والتفاضل.

لكن معلّم التاريخ الفخور، الذي قال: الكرة ليست سوى جلدة محشوة بالهواء، ثم رأى، في حكمةٍ وإشراق، أنها مليئة بالأفيون، وجد نفسه واقعاً في هواها، تسرّب إليه حب الأفيون بالتدخين السلبي، فأحبّها، حتى صار لقبه سعدون الألماني. كأس العالم يُسكر من غير أن يذوق المرء منه شيئاً. ولا يعرف أحدٌ كيف يختار عشاق الكرة العرب حتى الآن أنسابهم الكروية العالمية، الحب أعمى حتى في الرياضة، تسوقها الرغبة في النصر والظفر، وحب الغزو والجهاد والفتوحات.

تزوجا في فترتين متقاربتين، فدخلا الدنيا، وطفقا يسعيان إلى دنيا أخرى. وكان حال مدرس الرياضيات فوق الريح، يكامل بين الدروس، ويفاضل بين الطلاب، ويغتني من الدورات. أما مدرس التاريخ فكان تحت الريح، وتحت الدلف، وتحت المزراب، فمدرس الرياضيات يدرّس علماً يحتاج إلى مساعدةٍ ودروسٍ خصوصية، أما التاريخ فكلام مفهوم، لا يحتاج سوى إلى الحفظ من أجل الامتحان، ثم إلى النسيان بعد الامتحان، حتى يعيش بصحة وأمان.

كانا يجتمعان في باحة دارة مدرس الرياضيات، ويشاهدان المباراة على تلفزيون الكرونديك الكبير، ويؤجل مدرس الرياضيات الدروس الخصوصية، الموافقة مواعيد بث المباريات المقدسة، فهي مثل الصلوات، الصلاة على وقتها، المباراة لا تشاهد إلا في موعدها، فلا قيمة لها مسجلةً سوى للمدربين وأعضاء الفريق لتتبع الأخطاء، والاعتبار من الدروس، المباراة المسجلة مباراة فقدت شرفها. أما مدرس التاريخ فكلاهما؛ هو والتاريخ منسيّان. وينضم إلى الجمع عادة أصدقاء وجيران، فيتحول بيت عبود إلى ما يشبه المقهى.

خسرت ألمانيا “الغربية”، هكذا كان اسمها، فريق سعدون الذي لا يعرف من بلادها سوى سيارة الفولكسفاغن، وأحبها من طرف واحد، وربح فريق معلم الرياضيات الرهان على فريقه الإيطالي الذي لا يعرف من إيطاليا سوى المعكرونة، وأحبها أيضاً من طرف واحد.

وكان شرف الرجل في شاربه، في تلك الأيام، مثل الحصان الذي إذا قطع ذيله يموت.

عاد سعدون مع عروسه وشاربه إلى الدار، وأخبرها أنه يعاني من صداع، وأخذ المرآة الصغيرة، وشفرة الحلاقة، ودخل. وخشيت زوجته أن ينتحر مثل هتلر الذي حكى لها كثيراً عن كبريائه. دخل وحلق وبقي شهراً، لا يخرج، حتى نما له شاربٌ جديد، أما التاريخ، فكان ولا يزال محبوساً داخل البيت أو في المدرسة، لا يخرج منهما.

المصدر : العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى