مقالات

سميرة المسالمة – السوريون ما بعد الهزيمة والحرب الثالثة

خسر السوريون بكل مواقعهم (مع الثورة أو ضدها) معركتهم في سورية، خسروها جميعاً، من قاتل من أجل استلام السلطة، ومن دافع عن سلطته القائمة بكل عيوبها ومآسيها، من جاهر بطلب الحرية، ومن فتح النار عليها، من قال مدّعياً أنه يقاتل من أجل الله وإقامة شرعه على الأرض، ومن عارضه، من كان يسمّي نفسه نظاماً، ومن واجهه تحت مسمّى “معارضة”.. لا يستطيع أي طرف سوري الآن ادّعاء الانتصار على الطرف الآخر، فحيث انتصر أحدهم في موقعةٍ خسرها في مكان آخر، ما يعني أننا أمام مجموعٍ من المهزومين الذين يحاولون تجميل مواقع هزيمتهم بادّعاءات النصر الموهوم، على جبهات حربٍ مشتعلةٍ، أكلت أحلامهم جميعاً، بما فيها مكانها “سورية الدولة والمواطنين”، فكيف يكون النصر على بقايا وطنٍ، يحتله الغرباء قراراً وسيادة وقواعد عسكرية؟

يمكن الحديث عن سورية تحت الاحتلالات العديدة، وامتيازات كل طرف سوري سلّم نفسه غنيمة حرب لهذا الاحتلال أو ذاك، بدءاً من “النظام” الذي استدعى قوىً إقليميةً وعالميةً ومليشيات طائفية، لتحارب معه عن سلطته القمعية بوجه مواطنيه الذين صرخوا بمظاهراتٍ سلميةٍ طلباً للحرية، ومروراً بأطياف الفصائل المسلحة لأيديولوجيات نمت واستطالت في ظروف الفوضى، وانتهاج النظام أقسى درجات العنف في قمع المظاهرات السلمية، لتبرّر وجودها على الأرض السورية، دفاعاً عن السوريين، بينما ينتمي معظمها إلى مموليه وأجنداتهم، ومارس فعلياً سلطة أمنية موازية لأجهزة الأمن السورية في مناطق ادعى أنها “محررة”، وانتهاء بدول مارست أدواراً بوهم مواقعها وقدراتها المالية، وهيمنتها الأيديولوجية على مريديها وأتباعها، ليدفع الشعب السوري ثمن كل تلك الارتهانات للنظام والمعارضة وطناً سليباً في سيادته وحرية شعبه.

فقدان النظام السوري قدرته على حرية القرار أمام الاحتلال الروسي، كما هو الحال أمام احتلال إيران، جعل التسويات التي تتم بين قوى الاحتلال الروسي والفصائل المسلحة تمزّق وحدته: “سلطة وجيشاً وقوى أمنية”، والتي راهن عليها خلال عامي حربه الأولين ضد المعارضة الوطنية التي رفعت في وجهه شعارات الحرية والعدالة والمواطنة، وحمل بعض أطيافها السلاح بهدف الدفاع عن النفس، لا احتلال المحتل، ولا تحرير المحرّر، ليقع فريسة هيمنة القوى التي استدعاها، لتكون سبباً مباشراً في تنازع قواته، بشقيها الأمني والعسكري، وما يقع تحت سلطتهما من أدواتٍ تنفيذية، بين قبول الاحتلال الروسي سيداً حاكماً بينهم والامتثال لإرادة الاحتلال الإيراني، ليكون طرفاً مواجهاً على بعدين:

أولهما، البعد المحلي الذي يعني أنه يزيد من التمزّق السوري الذي تم تصنيفه بين النظام طرفا والمعارضة طرفا مقابلا، ليصبح بين النظام تحت السيادة الإيرانية من جهة، في مواجهة النظام تحت السيادة الروسية من الجهة الثانية، ما يعني دخول السوريين في حربٍ، هي الثالثة من نوعها، والتي بدأت مع حرب النظام ضد السوريين المطالبين برفع الظلم عن أنفسهم، ثم طورها بإدخال الأطراف الدولية، وفتح معابر البلد لتكون ساحة صراعٍ بين أطراف دولية تدخلت، في المقابل، لتبدأ الحرب الثانية بتحويل الصراع من صراع في سورية إلى صراع على سورية، لنصل الآن إلى الحرب الثالثة بين مرتهنين لمصلحة الاحتلال الروسي، وهذا يضم بعض سوريين من النظام، ومعظم فصائل المعارضة التي انضوت عسكرياً تحت ظل موسكو وفق اتفاقات أستانة، وكما يضم مجموعات وكيانات سياسية، جمعتها روسيا في ما يسمّى مؤتمر سوتشي.

ثانيهما، البعد الدولي الذي فرضته قرارات الولايات المتحدة الأميركية مع حليفتها إسرائيل بتحجيم الدور الإيراني في المنطقة، ولملمة أذرعها من سورية، ما يعني دخول القوى السورية من النظام والمعارضة المتحالفة المنقسمة بين الاحتلالين بصراع داخلي (روسي – سوري، ضد إيراني – سوري)، تبرّره قرارات خارجية، وتدعمه اتفاقات روسية – أميركية، في ظل مصالح خالصة لموسكو في الالتزام بتحجيم الدور الإيراني، في مقابل إطلاق يدها في سورية، وتخفيف مرتجعات العقوبات الاقتصادية عليها التي تئن اليوم مع شريكتيها، تركيا وإيران، تحت ضربات متلاحقة من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب.

ويعني هذا أن السوريين بين خيارات الهزيمة إلى جانب أحد طرفي الاحتلال: الروسي مع تبعاته التي ترضي دولة الاحتلال الإسرائيلي، على حساب القضية الأم للسوريين، وذلك بالتنازل عن الجولان، والاعتراف أو استمرار الصمت الذي مارسه النظام مع الأنظمة العربية تجاه ممارسات إسرائيل العنصرية، والتوافق مع القرار التي تزعم إسرائيل أنها ماضية في إعلانه رسمياً ضمن ما سميت “صفقة القرن”، والتي تختتم دورتها في سلخ الجولان في مقابل لا يصنع نصراً لأي منهم” القبول بالحل الروسي في سورية، أو خيار الوقوف مع احتلال إيران لسورية التي أسهمت بنزع هوية الصراع العربي الإسرائيلي، وتحويله أداة لبسط سيطرتها على المنطقة العربية، تحت مسمّى أنها دولة مقاومة، وبالتالي متابعة دورها التدميري في زرع الفتنة الطائفية، وجعلها محور حياة الناس في الدول التي عبرتها، واحتلت مصدر قرارها، بدءا من العراق إلى لبنان فسورية واليمن.

مؤلم ومحبط هو المشهد السوري في ظل حقائق كثيرة لم تعد تحتاج إلى أقلام المحللين (من سياسيين وعسكريين ومدّعين على القنوات الفضائية)، لتفكيك مضامين تأويلاتها، فقد خسرت كل الأطراف السورية ما تبحث عنه في حرب مجنونة بدأها النظام، وتلقفتها دول إقليمية ودولية، لتخدم بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة، فكرة تفكيك الشرق الأوسط وإعادة صياغته وفق الخطة الأميركية المعلنة عام 1995، شرق جديد منزوع السيادة والقرار، ومجرّد سوق استهلاكي، يؤمن مواد أولية لصناعة رفاهية تلك الدول، ونعيد نحن استيرادها مرغمين، سلاحاً مدمرا لحياتنا ومدننا.

الإبقاء على حالة إنكار الهزيمة من المعنيين على جوانب الصراع “النظام، والفصائل المسلحة بكل أجنداتها، وحتى المعارضة السلمية” لا يصنع نصراً لأي منهم، بل يبرّر استمرار غياب السوريين وتغييبهم من الحلول الممكنة والسهلة، ليضع مكانها حلولا أقرب إلى منطق “حكاية ليلى والذئب” التي تختار طريقها الطويل، بكل ما فيه من مأساة فقدان الأهل والمنزل والمستقبل، على يد وحشٍ آثم غادر اسمه “احتلال”، جاء محمولاً على ظهور سوريين، وبإرادتهم، وليس العكس.

المصدر : العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى