إنه لرقم مهول على تاريخ الهزيمة (الثانية) أمام العدو الإسرائيلي. 48 عاما تعاقبت خلالها أجيال فلسطينية وعربية عدة على الظهور والاختفاء وفق قوانين الحياة البيولوجية، وكذلك وفق قوانين الغلبة والتدافع البشري والتحدي والاستجابة.
وليس هناك ما هو أكثر امتلاء بالدلالة مثل الرقم 48 الذي يحيل إلى النكبة الكبرى التي انبثقت عنها دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وعلى حساب شعبها، وها هو حساب السنين على الهزيمة الثانية التي تم فيها الاستيلاء على ما تبقى من أرض فلسطين يبلغ الرقم المقيت إياه، بينما حساب السنين على الهزيمة الأولى يبلغ الرقم 67، وتسعف الرياضيات هنا في جعل الهزيمة مضروبة (رياضياً) بالنكبة، لا مضافة إليها فحسب. وهذا بموجب تسمية الأشياء بأسمائها، وبالنظر إلى مآل التفاعلات على أرض الواقع، وليس من قبيل التفجع والسوداوية وجلد الذات. فخلال تلك العقود، نجح الصهاينة في بناء دولة عصرية لمواطنيهم/ مستوطنيهم اليهود.
دولة منتجة ومتطورة تستثمر الطاقات والموارد بأفضل استثمار، عبر تحالف العلم والأيديولوجيا، ويحكمها القانون، وبما يدفع المواطن المستوطن اليهودي، ومن الجنسين، إلى الدفاع عن حقوقه غير القابلة للتصرف فيها. أما غير اليهود، وهم المواطنون الأصليون أبناء الأرض، فهم مزيج من أغيار وأجانب وطابور خامس للأعداء وحاملي الجنسية بالاضطرار. وينطبق عليهم الحد الأدنى من القانون، والحد الأعلى من أنظمة الدفاع والطوارئ.
لدينا، نحن الفلسطينيين والعرب، ما لا يقل عن مكتبة كاملة تضم آلافاً مؤلفة من وثائق ودراسات وأبحاث ومقالات وتعليقات وشهادات وبيانات وخطابات وخرائط وصور تواكب النكبة، وتتعلق بالهزيمة مما هو سابق بأمد طويل على التوثيق الإلكتروني، وما هو لاحقٌ له، ما يتطلب الاطلاع عليه من الأجيال الجديدة، تفرغا كاملاً لعقد على الأقل. وللطرف الآخر شيء من هذا بلغات عدة. مما بات يعرف وبقدر من المخاتلة بالروايتين، أو السرديتين الكبيرتين، غير أن الوقائع أصدق إنباءً من الكتب، كما قال الشاعر العربي القديم.
والوقائع تفيد بعجز العرب، وحتى عزوفهم عن بناء دول عصرية دستورية، يتم فيها استثمار الموارد البشرية والطبيعية على أفضل وجه، ويتم تسخير مُخرجات هذا الاستثمار للرفاه الداخلي، وبناء قدرات دفاعية متطورة، وبلورة أمن جماعي للإقليم العربي، على الرغم من تضحيات الجنود العرب في المواجهات القليلة مع العدو. كما تفيد هذه الوقائع، بملحمة من تضحيات شعب فلسطين على مدى عقود، مع اختلاط النجاحات السياسية بالإخفاقات التي تتمحور حول أزمة قيادة وأزمة معارضة، وحول الفشل الملحوظ في جعل الانتصار لفلسطين مصلحة ملموسة للشعوب العربية، ولقوى دولية، على الرغم من تحقيق بعض الإنجازات الآنية على ذلك الطريق والتي تبدو كأنها تبددت في معظمها.
“أمكن للصهاينة التقاط ديناميات دمج وتوحيد في إطار دولة عصرية، فيما اندفع الطرف العربي، بعد عقود من الهزائم إلى التماس ديناميات للتفتيت والتذرر للانتقام من الدولة شبه الحديثة”
من المفارقات أن الانشغال بالتحدي الصهيوني يبدو، للوهلة الأولى، مؤجلاً في أيام الناس هذه، إذ كان الانشغال الفعلي بهذا التحدي، على الدوام، مُرجأً، وفي حالة تعليق باستثناء محطات عابرة، والجديد في الأمر هو إقصاء هذا التحدي الى مرتبة متأخرة جداً في الوعي، كما على أرض الواقع. بل والنظر إليه على أنه يندرج في عداد ذكريات غابرة، وليس على لائحة المهام الراهنة أو اللاحقة. فالمواطن العربي في دول عديدة في المشرق بات يبحث في يومه ليس عن مصادر رزقه فقط، بل عما يجمعه بجاره شريكه في الوطن والمجتمع الواحد، وما قد يُسفر عنه الجار من مفاجآت، بعد أن تقوضت قيم المواطنة والشراكة الاجتماعية والوطنية، وباتت الولاءات والهويات السابقة على نشوء الدولة محل الحكم والتصنيف، مع ابتعاث أسوأ الذكريات عن الآخرين، والدولة هذا الكيان العلوي المُفارِق لاختيارات البشر، تثير الرعب في حالاتٍ عديدة، بأكثر مما تحمل على الطمأنينة كمظلة لمواطنيها.
في الوعي العربي، ظل هناك تساؤل شبه دائم عما يجمع اليهودي الألماني باليهودي اليمني، عما يوحّد العلمانيين والمتدينين، السفارديم والأشكناز، العراقيين والفلاشا والروس، وكانت تنشب خلافات وسجالات حول ما إذا كان المعتقد الديني الواحد هو الجامع المشترك، أم العقيدة السياسية الصهيونية، أم المصلحة في استيطان أرض الغير، وتحويلها إلى “مخفر أمامي للإمبريالية”، وتعميم الثمرات على المستوطنين. وفي النتيجة، توحدت الأشتات أو انصهرت، لأن هناك دولة عصرية نشأت، اعتمدت، منذ البداية، على سبيل المثال، قانونا انتخابيا يسمى قانون التمثيل النسبي، يتاح فيه الترشح لأحزاب لا لأفراد، ويجعل من البلد كلها دائرة انتخابية واحدة، وبهذه الطريقة، لم تنشأ صراعات مناطقية، بل توحدت صورة الكيان الواحد المتحد في الأذهان، ولا نشأ صراع بين أفراد يستندون إلى خلفيات متضاربة، إذ اقتصر التنافس على أحزاب بما رفع مستوى الوعي السياسي، ووضع الهويات والانتماءات السابقة على نشوء الدولة الصهيونية جانبا، وأغلق أبواب الصراع العرقي والثقافي بين مكونات الجمهور.
في المقابل، وعلى الضفة العربية، يتم السير في اتجاه معاكس، فبعد أزيد من ستة عقود، يكتشف العرب “نعيم” الانتماءات الجهوية والقبلية والدينية والطائفية التي حرمتهم منها مؤقتاً الدول الوطنية، بل التي “حرمهم” الصراع الوطني والقومي مع الاستعمار والاحتلال منها، إذ كانت المعايير التحررية الوطنية العامة تتقدم على أي تصنيف للأفراد والجماعات، ويكتشفون “أصالة” الفوارق بين مواطن وآخر، وينبّشون عنها، ويحاولون إسباغ الصفة العصبوية الفئوية على الدول، وذلك في ردّة بعيدة المدى على مفهوم الدولة الحديثة، ومحاولة إسدال ستار عليها، والقفز عنها، في وقت تكاد تمّحي فيه الفوارق بين أبناء وأحفاد اليهودي البولندي والجزائري، وتجمعهم صيغة مواطنة متقدمة.
الحديث هنا عن عرب المشرق، مع الأخذ في الاعتبار أن الفلسطينيين أنفسهم، تحت الاحتلال وخارجه، لم تنجُ مجتمعاتهم وتجمعاتهم، وإن بتفاوت، من هذا الانحدار، فانبعثت التصنيفات العائلية والمناطقية والجهوية (بين قطاع غزة والضفة الغربية) في صفوفهم، وأسهمت الموجة الأصولية العارمة: الفصائلية والاجتماعية في إطلاق التصنيف الديني الذي يُباعد ما بينهم، وكان تاريخهم القريب والبعيد يخلو منه، ما شكّل، على الدوام، مصدر فخر لهم. وعلى هذا النحو، أمكن للصهاينة التقاط ديناميات دمج وتوحيد في إطار دولة عصرية، فيما اندفع الطرف العربي، بعد عقود من الهزائم إلى التماس ديناميات للتفتيت والتذرر للانتقام من الدولة شبه الحديثة، والاعتذار عنها! وفي ذلك بعض من مواطن التقهقر والاستجابة السلبية للتحدي.
العربي الجديد _ وطن اف ام