درعامقالات

محمد أبو رمان – “كأس العالم” للسياسات العربية

ما يحدث في درعا اليوم هو، عملياً، عملية تسليم كاملة لها من الأميركيين والإسرائيليين للروس والإيرانيين، فالرسالة الأميركية الواضحة للمعارضة المسلحة في درعا، في بدايات الهجوم الروسي (قبل أسبوع تقريباً) كانت تعني التخلي الكامل عنهم، والتفاهمات الروسية – الإسرائيلية عزلت درعا عن الحدود الجنوبية – الغربية (الجولان)، وبالتالي وبكلمة واحدة: العالم باع درعا لنظام الأسد والروس والإيرانيين.

الطريف أنّ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يبيع للعرب سياسة أنّه أنهى “الصفقة النووية” مع إيران، ويطالبهم بدفع ثمن ذلك، سياسياً واقتصادياً، ويتشدّق بأنّه انقلب على سياسات سلفه، باراك أوباما، الذي وقع الاتفاقية النووية مع طهران. وهكذا نشتري أوهاما ورهاناتٍ فارغة من الإدارات الأميركية، ويتم تمرير فكرة “التحالف السنّي – الأميركي (الإسرائيلي)” في مواجهة إيران إقليمياً وقوتها المتنامية.

على أرض الواقع، ما فعله ترامب عملياً هو أنّه سلّم سورية لإيران وروسيا، وسهّل مهمة تدشين طريق طهران – المتوسط، بعكس كل ادعاءاته وخطاباته العرمرمية. فوق هذا وذاك، أثبتت الأحداث أنّ لطهران النفوذ الأكبر في بغداد، وفي سورية، وبطبيعة الحال في لبنان، ومع الحوثيين، بمعنى أنّ كل ما يقوله ترامب عن مواجهة إيران مجرّد كلام في الهواء، يتكسب ويكسب من ورائه من الدول العربية، ويبيعهم الأوهام الزائفة.

ما يحدث في درعا وسورية يثبت أنّ الرهانات العربية على الدور الأميركي في إضعاف إيران مجرد أوهام، وأنّ معاداة العرب تركيا وطهران لا تزيدهم إلاّ ضعفاً ومحدودية، وإذا كان هنالك أي تفكير عقلاني عربي واقعي، فإنّ الاستراتيجية البديلة لذلك كله تتمثّل في تدشين حوار استراتيجي – حضاري مع كل من طهران وأنقرة، على قاعدة إعادة تعريف الأمن الإقليمي، وإدماج هذه الدول، والتدخل العربي لبناء معادلاتٍ داخل كل من العراق وسورية ولبنان واليمن، تقوم على قيم المواطنة والسلم المجتمعي، وتجنب سيناريوهات الحروب الداخلية والأهلية.

ما نحتاجه اليوم، عربياً وإقليمياً وإسلامياً، هو مقاربة جديدة كليا لإدارة شؤون مجتمعاتنا وخلافاتنا الداخلية، ذات الأبعاد الطائفية والعرقية والاستراتيجية، أولاً، ولعلاقاتنا ومصالحنا المشتركة ثانياً، لأنّنا نسير من خسارةٍ إلى أخرى أكبر، ومن منزلقٍ إلى مرحلةٍ أسوأ، فقدنا خلال الأعوام الماضية وحدها مئات الألوف من القتلى، وملايين المهجّرين والنازحين، وموارد مالية هائلة، وثروات تسرق للدول الكبرى والفاسدين، وبتنا شعوبا مطحونة بأزمات الجوع والخوف ونقص الخدمات الأساسية وغياب مشروعات التنمية، من دون أن تجلس هذه الدول (العرب، إيران، تركيا) على الطاولة، للحوار والنقاش العقلاني الواقعي والتفكير في المستقبل، بدلاً من الخضوع لأشباح الماضي وخزعبلاته.

هذا الحوار الاستراتيجي هو الوحيد لوضع العرب على طاولة التفاوض مع الأطراف الإقليمية والدولية، فيما الاستمرار في المكابرة ومعاداة إيران وتركيا والرهان على الأميركيين يقود الدول والمجتمعات العربية إلى قاع البئر تماماً، خصوصا إذا أخذنا بالاعتبار أنّ كل البروباغندا الأميركية اليوم ضد طهران تهدف إلى شيء آخر تماماً، وهو ابتزاز العرب اقتصادياً ومالياً، وهو أمر لم يخفه الرئيس ترامب، ولم يواره في حملته الانتخابية، ولا في خطاباته، وثانياً تمرير “صفقة القرن” الكارثية التي تعني عملياً التنازل تماماً عن القدس واللاجئين والسيادة من دون أي مقابل حقيقي.

إذا كانت هنالك “كأس عالم” لأسوأ تخطيط استراتيجي للأمن القومي والمصالح الوطنية للدول، فمن باب الأمانة والمصداقية، العرب هم المستحق الرئيس وبجدارة هذه الكأس، ولعلّ ما يحدث في سورية، وما وقع في العراق، وإدارة العلاقات مع الروس والرئيس ترامب، وكذلك حال الصراع مع تركيا وإيران، واستنزاف الجهود والأموال في خلافاتٍ داخليةٍ بين الدول العربية، وحروب الوكالة الإعلامية والمالية والعسكرية والسياسية هنا وهناك بين هذه الدول، ذلك كله يسجّل لصالح أحقيّة الدول العربية وجدارتها المطلقة بالحصول على هذه الكأس.

المصدر : العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى