انتخبت هيئة التفاوض السورية الطبيب والدبلوماسي السابق بدر جاموس رئيسا ًجديداً لها في اجتماعها الدوري الذي انعقد بشكل افتراضي، وذلك خلفا للرئيس السابق أنس العبدة، وسرعان ما واجه جاموس سيلاً من الانتقادات على قبوله بتولّي هذا المنصب، مردّها إلى كون السوريين فقدوا الثقة أساساً بالعملية التفاوضية التي ما تزال تراوح مكانها منذ سنوات بانتظار اختراق قد يهبط عليهم من السماء.
باستثناء ملايين الوثائق التي تدين الأسد، والتي أعدتها هيئة التفاوض رسمياً، ليس لدى المعارضة السورية لتقوله لمواطنيها لطمأنتهم إلى أن هناك بصيصاً في آخر شبكة الأنفاق التي هم فيها الآن، سوى ما تصفها بـ ”التفاهمات الدولية“، وكلما عبّروا عن نزقهم من مماطلة الأسد وتراخي المبعوث الدولي غير بيدرسون ومقترحاته التي كان أحدثها خطته ”خطوة مقابل خطوة“ يعاجلهم الأميركيون والأوروبيون وحلفاؤهم برفض أي تطبيع مع الأسد وبالتأكيد على محاسبته ومساءلته وضرورة التطبيق الكامل للقرار الدولي 2254.
تغيّر الكثير منذ العام 2011 وشهد العالم خلال السنوات الدامية التي مضت العديد من التحولات توجب على السوريين المطالبين بالتغيير في دمشق الالتفات إليها، نشأت تحالفات إقليمية وانهارت أخرى وتبدّلت مواقع قوى وبرزت قوى جديدة، كل ذلك ولا يبدو أن المعارضة السورية قادرة على إنكار ما قاله جاموس بنفسه ”إن لدينا رصيداً قوياً من العلاقات الدولية.. غير أنه مجمّد“.
يقول جاموس في تصريحات خصّ بها ”العرب“ إن هناك تأييداً كبيراً شعبياً وحكومياً حظيت به الثورة السورية حول العالم، ويضيف مستدركاً ”لكننا لم نستطع استثمار ذلك التأييد من خلال التواصل المُمنهج والمستمر مع الإعلامين العربي والغربي، وأيضا الحكومات والبرلمانات“. وقد يقول قائل إن مثل هذا الرأي يستقيم في حال لم يكن جاموس واحداً ممن شغلوا العديد من المناصب في قيادة مؤسسات المعارضة السورية، منذ أن أعلن انشقاقه وانخرط ضمن القوى السياسية المناهضة للأسد.
جاموس الذي ولد بمدينة التل في ريف دمشق أواخر الستينيات، متّهمٌ بالمرونة المفرطة والبراغماتية المندفعة وحتى التلوّن في المواقف، ولا يُعرف إن كانت هذه الصفات تُحسب ضدّه أم معه، في مهمة شبه مستحيلة تتطلب التفكير خارج الصندوق والعمل بوسائل مبتكرة، وهو رئيس مكتب العلاقات الخارجية في هيئة التفاوض وعضو في الهيئة السياسية للائتلاف السوري، كُلّف فيه بالإشراف على لجنة التعليم العليا وشغل منصب أمينه العام سابقاً. ابتعد عن مهنته كطبيب، وتابع دراساته العليا في العلاقات الدولية، ويعُيّن قنصلاً فخرياً لسوريا لعشرة أعوام في مولدوفا.
برز اسمه مؤخراً في كلمة ألقاها أمام مجلس الأمن الدولي، بدا فيها متشدّداً، على النقيض مما ينمّط به، حيال التعامل مع نظام الأسد، غير أنه أكّد مخاطباً أعضاء المجلس أن “الحل السياسيٍ الذي يُنهي الأزمة السورية هو ذلك الحل الذي يحقّق سلاماً مستداماً فيها“، إلا أنه أضاف قائلاً ”إن إعلان تشكيل محكمة دولية خاصة لمحاكمة المسؤولين عن ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في سوريا سيكون خُطوةً مهمةً على طريق الحل السياسي في سوريا“. كان ذلك قبل توليه منصبه الجديد، فهل ستتغير تلك المطالب في طريق البحث عن قرار مستقل لمؤسسات المعارضة السورية يحدّد وجهتها وبرامجها وخططها؟ إذ أن التباينات في الرؤى باتت تنعكس على شكل سجالات عبثية للجنة الدستورية المنبثقة عن هيئة التفاوض، بدت معها معزولة عن الزمن السوري وما يدور فيه، زمن بلغ فيه التحوّل المحيط حدّ أن يقول الروس على لسان مبعوثهم إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف إن ”جنيف لم تعد مكاناً للمفاوضات السورية“، وليؤكد على تصريحاته سريعاً معاون وزير الخارجية السوري ورئيس الوفد السوري إلى محادثات ”أستانا“ أيمن سوسان الذي اتهم سويسرا بأنها فقدت حياديتها التاريخية إثر موقفها من الغزو الروسي لأوكرانيا وبالتالي لم تعد ساحة صالحة لعقد جولات اللجنة الدستورية.
الستاتيكو الإقليمي المتوهّم
الخلافات الإقليمية وتداخلاتها والموقف الأميركي الذى انحاز فى فترة إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما تجاه إيران بغرض عقد الاتفاق النووي معها، عوامل يرى جاموس أنها جعلت الدول الداعمة للثورة السورية في حالة انقسام وفقدان للثقة بالأميركيين، فباتوا بين مؤيد ومعارض ومراقب، بينما وكما يقول ”وجد حلفاؤنا أنفسهم ضمن مشاريع متناقضة، وهنا تحوّلت البوصلة من الضغط من قِبل الجميع على النظام من أجل تحقيق حل سياسي، إلى الانشغال بالضغط على بعضهم البعض“.
وفي الوضع الذي شهده الشرق الأوسط خلال الأعوام الماضية، سيعثر كثيرون على صدى لمصالحهم لدى دولة يحكمها نظام، حتى لو كان في حالة عدم استقرار، لا سيما في ملفات الحرب على الإرهاب والأبعاد الاقتصادية والأمن القومي، في الوقت الذي لا تملك المعارضة السورية فيه ما تبيعه لتلك الأطراف في الملفات المذكورة كافة، فلا هي تحتكم على اقتصاد يخدم الظروف العالمية المتردية التي نشأت عن جائحة كورونا ومن بعدها الغزو الروسي لأوكرانيا، فمنابع النفط والغاز السوريين بيد ”قسد“ التي يسيطر عليها حزب العمال الكردستاني التركي، ولا يعتبر كثيرون أن حدود الفصل بين الإرهاب والجهاد والفصائلية واضحة كلّ الوضوح في خطاب وأداء المعارضة السورية، ما يجعل من إقناع الآخر في معادلة مصالح أمراً ليس سهلاً اليوم، وجاموس يدرك هذا جيداً، وهو الذي درس في المدرسة الروسية وعاش في أجوائها معظم سنوات حياته، وهي مدرسة في أبسط فلسفاتها تضغط بقوة لاستدراج الخيارات الصعبة لدى الخصوم والحلفاء معاً.
أما الدول العربية فبعد أن دعمت مطالب السوريين بالتغيير منذ البداية، أخذ هذا الموقف بالتحول التدريجي، ولحلّ ذلك التراجع يقول جاموس ”يتوجب علينا التواصل مع الأشقاء العرب بشكل مكثّف، وأنا شخصياً أؤمن بأن الدور العربي هو الدور المحوري لقضيتنا، وأخصّ بالذكر دور المملكة العربية السعودية ومصر وقطر والأردن والإمارات والكويت، وكلها دول أسهمت بشكل كبير فى دعم الثورة، كما أن عدم التوصل لحل عادل للقضية السورية يؤثر عليها سلبا“.
الرؤى المختلفة لكل من الدول العربية التي يذكرها رئيس هيئة التفاوض، والتي لا يمكن القفز فوقها والقول إن الوقت كفيل بحلها، نابعة من كونها دولاً ذات سياسات سيادية كبرى ولديها نهجٌ تختاره وفق ما يفيد موقعها وأدوارها الحيوية في المنطقة، ناهيك عن أوضاعها الداخلية. صحيح أن غالبية هذه الدول اختارت التأنّي، لكن ذلك لا يعدّ جموداً كما يمكن أن تفهمه المعارضة السورية التي تعتبر أن هناك ”ستاتيكو“ يتحكم بالملف السوري، ففي حقيقة الأمر فإن ذلك ”الستاتيكو” الذي تشعر به المعارضة السورية نابع من رؤيتها هي ومن قراءتها للمشهد.
سوريا وعمقها العربي
كان لتشكيل مثل هذه المؤسسات دور كبير في كشف الغطاء عن خلافات عميقة في كيفية النظر إلى الدولة والمجتمع في سوريا، من قبل الأطراف المساهمة في صناعة العملية السياسية، أمرٌ دفع كثيراً من السياسيين السوريين إلى التصريح علناً أن ما يطرحه وفد الأسد في جنيف أقرب إلى الأمة العربية والمصالح العربية من طروحات كثيرة يرددها بعض أعضاء وفد المعارضة.
يرد جاموس على ذلك بالقول ”إن ما يتم طرحه عن أن وجهة نظر النظام هي الأقرب لوجهة نظر العرب هو بروباغندا إعلامية يتقنها النظام جيداً، ولكن على أرض الواقع نجده يتحالف مع الإيرانيين ضد العرب، ولا يمكن لأحد المزايدة على السوريين بعروبتهم التى أصبحت ثقافة لجميع السوريين. ما تريده المعارضة هو الحفاظ على الثقافة الجامعة للسوريين“. ووفقاً لجاموس فإنه ومن أجل أن تكون سوريا مستقرة، يجب أن يتمتع جميع السوريين بالمواطنة المتساوية فى بلدهم، فوجود العرب والكرد والتركمان والسريان الآشوريين وغيرهم من مكونات الشعب السوري يعطي الصورة الأجمل لهذا البلد، ولا أحد من مكونات الشعب السوري ينكر على سوريا عُمقها العربي وثقافتها وهي ستبقى عمقاً للدول العربية وهم عمق لها، على حد قوله.
يطالب بكسر الجمود و“إيجاد حل سياسي مستدام من خلال انتقال سياسي يحقّق الأمن والأمان للشعب السوري، ويحقق الاستقرار لدول الجوار ليتمكن اللاجئون من العودة الطوعية والآمنة“، وهو من المؤمنين بأن ما تعوّل عليه المعارضة السورية اليوم، فشل المجتمع الدولي في التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران، وفشل الأسد في تلبية مطالب الدول العربية التي قامت بتطبيع علاقاتها معه، وعدم استجابته لمحاولاتها إقناعه بالذهاب إلى العملية السياسية والحل السياسي، علاوة على التصاقه بطهران ومشروعها التوسعي في المنطقة والذي يهدّد دولها ومجتمعاتها بالتفكك.
القضايا الملحة
الجمود الذي يعدّه بعض قيادات المعارضة السورية ورقة قوية للعب، يتضح جلياً في الموقف المتمسّك ببقاء اللجنة الدستورية والاستمرار في أعمالها إلى الأبد بذريعة كشف مماطلة الأسد والانسجام مع الموقف الدولي العام وموقف الأمم المتحدة ومبعوثها. فيما يرى آخرون أن بقاء المعارضة مشاركة في هكذا لجان إنما يمنح الأسد مزيداً من الشرعية كل يوم، ولا يعبّر للعالم عن موقف جاد للسوريين حيال هذه المماطلة.
جاموس يرى أن اللجنة الدستورية كانت إحدى البوابات للعملية السياسية، ولكن تم التركيز عليها أكثر من اللازم، وأُعطيت دوراً أكبر من دورها، وهو يعتبر أن كان هناك تقصيراً كبيراً من الدول الداعمة والأمم المتحدة، بتجاهل مطالب السوريين بفتح باقي المسارات، وأهمها مسار هيئة الحكم الانتقالي الذي يتم تعطيله بسبب الضغط الروسي، وهي نبرة جديدة تُسمَع للمرة الأولى، بعد سنوات، يقلّل فيها رئيس هيئة التفاوض من دور وأهمية اللجنة الدستورية الذي يرى أنها لا يمكن أن تستمر دون ”حشد لوبي دولي للضغط لتحقيق ذلك“.
الجديد أنه وحتى قبل فترة وجيزة سابقة، كانت مؤسسات المعارضة السورية ترفض الاعتراف بفشل اللجنة الدستورية وتدافع عن استمرارها رغم ظهور الكثير من الاحتجاجات من أعضائها أنفسهم الذين استقال بعضهم وأصدر بعضهم الآخر بيانات تطالب بتعليق عمل اللجنة حتى الحصول على ضمانات بتطبيق فوري لما تم النص عليه وبجدول زمني واضح، لكن كل تلك الأصوات لم تجد لها آذاناً صاغية لا بين رؤساء مؤسسات المعارضة ولا لدى المبعوث الدولي الذي بدا غير مكترث على الإطلاق بأي مطالبة وجّهت إليه لتوضيح استراتيجيته.
عرفت الهيئة التي يرأسها جاموس اليوم العديد من المنعطفات التي عصفت بها خلالها تغيرات جذرية، فالهيئة الأولى التي أسست برعاية عربية سعودية بالدرجة الأولى آلت إلى التفكك، بضغط من الروس الذين قالوا إنها تضم صقوراً يمنعون الحل السياسي من المضي قدماً، وأنه لابدّ من التخلّص منهم، والإبقاء على المعتدلين، وهذا ما حصل، لكن شيئاً لم يتغيّر فلم يتمكن المعتدلون ولا من انضم إليهم لاحقاً من إحداث أي اختراق بل زاد الاستقطاب حدّة في ما بين مكونات الهيئة.
وكي يحدث اليوم مثل هذا الاختراق يرى جاموس أنه لا مجال سوى لما قال إنه ”ترتيب البيت الداخلي، وهذا سيكون من أولويات عملي فى المرحلة القادمة ومحاولة اقناع مكونات هيئة المفاوضات للعمل المشترك البناء لمصلحة قضيتنا، وضمان حقوق جميع المكونات بالتفاهم والحوار الداخلي وتركيز مهمة هيئة المفاوضات على عملها الأساسي المناط بها وهو تطبيق القرار الاممي“.
وكما يشعر الملايين من السوريين الذين بقوا تحت حكم الأسد بالمزيد من انفصال السلطة عن واقعهم المعيشي المتردي والذي لا تقدّم له حلولاً، يشعر أبناء جلدتهم ممن يقطنون في المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد، وتلك التي تديرها المعارضة وحكومتها المؤقتة، أو الذين في بلاد اللجوء أن هناك مسافات باتت تفصلهم عمّن يتصدرون الساحة السياسية.
قضايا عديدة يقول جاموس إنه سوف يتصدى لها محاولاً جسر تلك المسافات، من بينها تشكيل ما يشبه مجلسا استشاريا موسّعا ينهل من كفاءات السوريين من مختلف المشارب، وإشراكهم في وضع التصورات والبرامج، سواء كانوا من السياسيين المخضرمين أو الفئات الشبابية والنسوية التي تم إهمالها تماماً لصالح استمرار مجموعة من الوجوه المكرّرة ظلّت تتبادل الأدوار فيما بينها وتهيمن على القرار، حسبما يشتكي السوريون، ويتزامن ذلك مع ما عُرفت باسم خطة ”إصلاح“ تم وفقها استبعاد عديدين من الائتلاف السوري وضم آخرين، تمهيداً لتغيير سيكون أكثر شمولية وملاءمة لمرحلة جديدة همس باقترابها اللاعبون الكبار في الملف السوري.
الكاتب: إبراهيم الجبين نقلاً عن صحيفة العرب