يعرف القاصي والداني حكايات الإجرام للعائلة التي تحكم دمشق، وشاهد معظم الوطن العربي والعالم جرائمهم على شاشات الفضائيات، حتى غدو أيقونة للإجرام، لكن ما لا يعرفه كثيرون هو حجم الفساد المالي للعائلة التي تحكم سورية منذ نصف قرن
في البداية يدرك معظم السوريون أن نظام أسد الأب بدأ منذ سبعينات القرن الماضي نقل الثروة من يد الأغلبية التي اتهمت بأنها من بقية البرجوازيين والإقطاعيين، إلى يد طائفته، عبر سلسلة من الإجراءات استخدم بواسطتها كل أساليب التلاعب والتحايل والتهجير في كثير من الأحيان، للإستيلاء على أملاكهم وتبديد كمونهم التراكمي في بلدهم سورية، وقد استمر بشار على نهج والده مع تضييق دائرة المستفيدين أكثر لتنحصر في يد عائلته فقط، واستمر هذا الحال بعد انطلاق الثورة، بل أُطلق العنان لأنصار الطائفة ليسرقوا كل ما تقع عليه أيديهم من أملاك المواطنين الخاصة أو ما اصطلح عليه بالتعفيش في الأماكن التي شهدت اندلاع الاحتجاجات الشعبية الرافضة لحكم هذه العائلة، وكانت حسابات العائلة قائمة على أننا إذا لم نحكم كامل سورية فإننا سنقسم البلد وننسحب إلى الساحل السوري الذي نقلوا له معظم مقومات الدولة العسكرية والمالية، ومن ثم سيتحصنون هناك ليعلنوا دولتهم، ولكن أحلامهم تلك تبددت عندما تدخلت روسيا بجيشها عام 2015م وأعلنت أنها ضد مشاريع التقسيم بالإشارة إلى تلك التي تدعمها أمريكا في المنطقة الشرقية عبر دعم الأحزاب الإنفصالية الكردية.
بعد سقوط مشروع التقسيم ومع تقدم الروس على الأرض واسترجاع معظم الأراضي السورية التي كانت خاضعة للفصائل العسكرية، كان الروس يعملون بموازاة ذلك على ما يشبه إعادة هيكلة للجيش والقوى الأمنية، حتى باتوا يستطيعون الولوج لأي موقع بما في ذلك الرئاسة، ومع إحكام قبضتهم على مراكز السلطة انكشف أمامهم حجم الفساد الذي تمارسه هذه العائلة، ولأن العمليات العسكرية كانت في أوجها لم ينتبه البعض في الخارج إلى ما كان يجري داخل العاصمة دمشق، فبعد أن أيقن الروس أن أحداً لن يدفع أموالاً لإعادة الإعمار قبل تغيير حقيقي في بنية النظام، بدؤوا يضغطون على بشار للبدء بمكافحة الفساد، واستعادة الأموال المنهوبة من زمرته الفاسدة لكي يستطيعوا أن يبدؤوا بعملية ترمييم أولية تعطي انطباعاً بأن الأمور تسير بالاتجاه الصحيح، وبعد مماطلة من بشار بدأ منتصف العام الماضي فعلاً عملية الضغط على التجار خصوصاً أولئك الذين صنعوا ثرواتهم زمن الحرب، وأيضاً أولئك الذين يرتبطون بالعائلة ويديرون أصولها، وقد تسربت الكثير من الأخبار مثل تلك التي ذكرت أن محمد حمشو دخل بأزمة صحية في سبتمبر أيلول 2019م نتيجة الضغوط ثم خرج خارج سوريا لكنه لم يستطع أن يخرج بقية عائلته ثم اعتذار حسام قاطرجي في ديسمبر كانون أول 2019م ثم ما تسرب من أن سامر الفوز رضخ ودفع لبشار كما دفع وسيم قطان كذلك مبالغ طلبت منه، إلى أن وصل الأمر إلى رامي الذي رفض رفضاً قاطعاً أن يدفع.
خيارات النظام باتت واضحة المعالم، فهناك خياران لا ثالث لهما فإما أن يبدأ بالإصلاحات الإقتصادية، وإما أن يخرج من المشهد، وبالطبع لا نية لبشار بالخروج من المشهد، وسيأخذ خيار الإصلاح وهو الخيار الذي يعتقد الروس أنه سينقذه ويعومه من جديد إذ سيظهره بمظهر المخلص الذي يحارب الفساد، لكن السؤال الأهم هو هل يستطيع بشار فعل ذلك؟
لقد قال بشار منذ أكثر من عام أن المعركة ضده تغيرت وأنها باتت ذات طابع اقتصادي، حتى أنه وصفها بالحرب الاقتصادية، فهو كان يدرك أن قانون قيصر سيقر بنهاية الأمر وأن تبعاته ستسبب للاقتصاد المتهالك أصلاً مشكلات يصعب حلها، لذلك قام بزيارة إلى إيران على رأس وفد اقتصادي كبير لاستلهام التجربة الإيرانية في التهرب من العقوبات التي تطال نظامه، وبالطبع إيران لم تبخل عليه وشرحت له ولمرافقيه تجربتها، ومنذ أن عاد يحاول أن يبني الشبكات التي تمكنه من كسر العقوبات، ولكن تبقى مشكلته الكبرى أنه بلا نفط، ذلك أن النظام الإيراني عندما فرضت العقوبات عليه وتم تجميد أصوله إبان الثورة التي أوصلت الملالي للحكم كان يستطيع بيع نفطه وإبقاء الأموال خارج إيران واستخدامها كضامن للاعتمادات البنكية الداخلية، وبذلك فهو يستبدل عملياً البضائع مقابل النفط، وهي عملية بالرغم من أنها ذات تكاليف أعلى إلا أنها مجدية بالنهاية، وأعطت النظام قدرة على خرق العقوبات، هذا الفارق جعل النظام يفكر جدياً بأن يبقي جزء من ثروته بدول كالصين وأوروبا الشرقية وروسيا والإمارات ليستطيع أن يستخدمها كبديل للاعتمادات في الخارج، ومن هذه النقطة بدأت الخلافات بين بشار ورامي الذي يرى أن هذه العملية ليست آمنة وبأنها سوف تبدد الثروة التي جمعوها خلال عقود، ولأن ذلك يقتضي البناء على عامل الثقة بأفراد مختلفين وقد يكونون من عائلة أسماء أو مرتبطين بها، كل ذلك يجعله يتوجس خيفة من كل تلك المخططات ويعلن رفضه العلني لها.
بشار اليوم مدعو أكثر من أي وقت مضى ومن قبل أصدقائه قبل أعدائه للتغيير، هذا التغيير الذي سيسبق المرحلة الانتقالية، ولن يستطيع أن يتهرب منه إلا بفتح معارك جديدة والاستمرار بهذه المعارك على أمل أن يتغير الوضع الدولي لصالحه مرة أخرى، وكما عودنا دائماً فإنه سيحاول الاتفاق مع ابن خاله، ثم سيأخذ بالخيارات الأكثر دموية، وسيحاول فتح المعركة تلو الأخرى حتى يمل حلفاءه ويتخلصوا منه لأنه ببساطة نظام غير قابل للإصلاح مهما حاولوا.
الكاتب: عبد الرحمن جليلاتي