رمت بعض الدول العربية أوراقها قبل انتهاء اللعبة في سورية، بل وذهب بعضهم أبعد من ذلك بأن أعاد العلاقات مع النظام بحجة محاولة إقناعه بالتخلي عن الشراكة الاستراتيجية مع إيران، ليجدوا أنفسهم اليوم خارج نطاق التأثير بالأحداث التي تعصف بالمنطقة، بل ويضطروا للذهاب لتركيا وقطر لكي يعرقلوا محوراً عماده الطاقة يبدوا أنه يتشكل في ظل حاجة الغرب الملحة للتخلي عن موارد الطاقة الروسية بعد الحرب على أوكرانيا
الدول التي دعمت الثورات المضادة هي في جوهرها عبارة عن شركات لإنتاج وتسويق الطاقة، وما تحاول الولايات المتحدة اليوم فعله هو إيجاد بدائل عن النفط العربي، وهو ما تعتبره دول شركات النفط تصرفات عدائية لا مبرر لها، إذ أثبتت أنها يمكن الاعتماد عليها في الأوقات الحرجة، ولا داعي للإضرار بمصالحها من خلال التعامل مع منافسين محتملين كانت الولايات المتحدة تصنفهم ضمن محور الشر، وكان يفترض بالولايات المتحدة حسب وجهة نظرهم أن تدعهم يقومون بدورهم في الحفاظ على أمن الطاقة العالمي، وأن تتعامل بمنطق الشريك لا السيد الذي يرسل رسائله عبر الإعلام ويطلب منها زيادة الإنتاج أو خفضه، خصوصاً وأن القيادة السياسية الجديدة لتلك الدول تسعى لتكريس شرعيتها وتثبيتها من خلال اعتراف الولايات المتحدة بها صراحة والجلوس معها، لا اعتبارها منبوذة أو جزء من عوامل عدم الاستقرار في المنطقة والعالم
يبدو جلياً اليوم أن الولايات المتحدة تحن لأيام كانت تطلق فيه لقب شرطي الخليج على شاه إيران، بل وتحن لتلك الشراكة، كما يبدو أيضاً أنها لم تنس أو تغفر وقف بيع النفط عام 1973م والذي تزامن مع حرب تشرين /أكتوبر وتسبب ذلك الوقف في أزمة طاقة عانت منها الولايات المتحدة قبل غيرها، ويبدو أيضاً أنها تتجاهل حقيقة أن سياستها آنذاك في تفضيل إيران هي السبب الرئيسي الذي دفع الملك فيصل ليأخذ قرار الوقف وليس أي شيء آخر، فهل تريد الولايات المتحدة الانتقام اليوم بعد أن وصلت للاكتفاء الذاتي من النفط؟
كان يفترض بقيادات دول شركات النفط أن تدرس بعمق تصريحات أوباما التي قال فيها عند سؤاله عن سبب تفضيله التعامل مع الإيرانيين ” يكفي أنهم ليس لديهم ميل للانتحار الجماعي” وأن يجهزوا أنفسهم لما يحصل اليوم، فالمسألة لم تعد تفضيل بل هي مصالح، والمصالح تقتضي اليوم التعاون في مجال الطاقة ما يعني رفع العقوبات الأمريكية عن قطاع النفط الإيراني بغض النظر تم الاتفاق النووي أم لا، وتسهيل نقل النفط والغاز، وهذا من الممكن أن يفضي إلى تعاون ما بين دول المنطقة لنقل تلك المواد بأسرع الطرق وأرخصها، والموقع الجغرافي لإيران يسمح لها بأن تلعب هذا الدور خصوصاً إذا تعاونت مع تركيا في هذا الإطار، وهذا تحديداً ما يفسر تصريحات وزير خارجيتها الذي زار أنقرة مؤخراً ” بأنهم يتفهمون دوافع تركيا للقيام بعملية عسكرية داخل سورية” بعد أن كانت رفضتها سابقاً.
ومن الممكن أن يفضي هذا التعاون إلى إشراك النظام في تلك التفاهمات، فالجغرافية السورية مهمة أيضاً في مثل هذه الحالة، والتسريبات التي أعلنت عنها القناة 12 الإسرائيلية منذ أيام بأن “الولايات المتحدة تجري مباحثات لنقل النفط الإيراني إلى سورية” الهدف منها قطع الطريق أمام إتمام هذه التفاهمات، خصوصاً بعد أن أعلنت الولايات المتحدة رفضها خطة إسرائيل والتي بموجبها كان يفترض نقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عن طريق قبرص ثم اليونان، والتي دعمتها دول شركات النفط، فإسرائيل التي تضررت من رفض الولايات المتحدة لخطتها ممتعضة من صمت الولايات المتحدة على إمكانية نقل إيران الطاقة إلى البحر المتوسط لذلك سربت الخبر
أضف إلى ذلك الامتعاض الإسرائيلي امتعاض مصري لبناني أردني من عدم منح خط الغاز المصري الاستثناء من عقوبات قيصر مكتوبة كما طلب الجانب المصري، والمماطلة غير المفهومة من الجانب الأمريكي بهذا الخصوص، خصوصاً أن تلك الدول ترى بأم أعينها صمت الولايات المتحدة على التمدد الإيراني في سورية والذي من الممكن أن تستثمره إيران اقتصادياً دون أي ردة فعل عملية من الجانب الأمريكي!
إزاء هذه التطورات من الممكن فهم ردة فعل ملك الأردن الذي تحول بين ليلة وضحاها من مدافع عن النظام الذي كان يراه أمراً واقعاً إلى مهاجم له ويرى أنه يشكل عامل تهديد وعدم استقرار اليوم للمنطقة برمتها
إذا نظرنا للأمر بنظرة شمولية فإننا نرى محوراً اقتصادياً يتشكل، فهناك إيران _العراق _سورية ومعهم تركيا طبعاً، ومن الممكن أن تنضم قطر التي تتقاسم مع إيران ملكية حقل الشمال للغاز، مثل هذا المحور كفيل بأن يعوض جزء مهم من حاجة أوروبا للطاقة إذا حظي بموافقة أمريكية، وهو ما يشكل تهديداً لمصالح أطراف أخرى بالمنطقة ويثير حنقها، ويدعوها بالطبع لمحاولة إيقافه منطلقين من قاعدة “يا لعيبة يا خريبة” وعليهم لينجحوا بأن يتحالفوا مع المتضررين من مثل هذا التحالف مثل روسيا وإسرائيل، لذلك رأينا موقفهم الحيادي بداية الحرب الروسية الأوكرانية، وبالرغم من تغير المواقف الرسمية بعد الضغوط الأمريكية على تلك الدول إلا أن خطابها الإعلامي السائد يشي بأنهم يقفون مع روسيا ضد الغرب
فالتحركات الدبلوماسية الأخيرة النشطة بالمنطقة ما هي إلا محاولة لقطع مثل هذا المحور وإعاقته، لذلك رأينا زيارات لتركيا من قبل قادة الإمارات وإسرائيل والسعودية وزيارات أيضاً لقطر واتصال مع النظام ومحاولة ترغيبه تارة وترهيبه تارة أخرى، كل ذلك باعتقادي مرهون بالموقف الأمريكي، الذي من الممكن جداً (خصوصاً في ظل هذه الإدارة) أن يضرب بمصالح حلفائه عرض الحائط كما فعلوا سابقاً عندما وقعوا مع إيران الاتفاق النووي، ما شجع الأخيرة على زيادة عربدتها في المنطقة
أخيراً في السياسة كل شيء ممكن ولا شيء ثابت إلا المصالح، وعلينا كسوريين أن ندرك أنه ليس هناك دول عربية أو أمن قومي عربي بالمعنى الذي زرعه حزب البعث في عقولنا، وأن زعماء دول شركات النفط ليسوا زعماء دول بل مدراء شركات مساهمة يمتلك فيها الأجنبي حصة لا بأس بها تسمح له بالتأثير على قرارات هؤلاء المدراء، وأن هذه الشركات التي وظفت إمكانياتها ضد حرية الشعوب ودعمت الثورات المضادة لن تنجو من الموجات المتتالية إلا بحالة واحدة فقط وهي أن تركع لمطالب الشعوب وتتماهى مع مطالبها وتركب قطار التغيير لا أن تقف بوجهه لأنه سيدهسها لا محالة.
بقلم: عبد الرحمن جليلاتي
كاتب سياسي سوري