في خضم التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى التي مرت بها سوريا، لم يكن الفنانون والممثلون – وكثير منهم لعبوا أدواراً بارزة في المشهد الثقافي والإعلامي – بمنأى عن التأثيرات والتغيرات في مواقفهم ومواقعهم. ومن الواضح أن القضية المطروحة هنا تتعلق بكيفية تحوّل بعض الفنانين الذين كانوا في عهد النظام المخلوع (نظام بشار الأسد) من مهلِّلين له إلى مهاجمين عليه بعد سقوطه، في حين يمضي آخرون في النأي بأنفسهم عن المسؤولية الأخلاقية، بل وينكرون معرفتهم بفظائع النظام.
التماهي مع السلطة
في العقود الماضية من حكم عائلة الأسد، تمكّن النظام من توظيف كافة الأدوات الثقافية والفنية والإعلامية لتكريس شرعيته وصورته. وقد لعب الفنانون دوراً محورياً في هذه المنظومة الدعائية، سواء من خلال أعمال تعكس رؤية النظام وتتجنب المسّ بالمحرمات السياسية، أو عبر المشاركة في فعاليات ومهرجانات رسمية دعائية تقدّم النظام على أنه حامي وحدة البلاد واستقرارها. في هذه الفترة، كان الولاء للنظام – أو على الأقل عدم معارضته علانية – وسيلة لضمان استمرارية الفنان على الساحة الفنية، والحصول على امتيازات وتسهيلات، وأحياناً النجاة من الملاحقة والمضايقات. هكذا، تشكّلت طبقة من المبدعين المتماهين طوعاً أو تحت ضغط مع الرؤية الرسمية.
لحظة السقوط
عندما سقط النظام اضطربت تركيبة الولاءات. فقد وجد الفنانون الذين كانوا بالأمس جزءاً من آلة التبرير والتلميع أنفسهم في موقف حرج: تاريخهم موثق، وصورهم وأصواتهم تملأ الأرشيف، فهم امتدحوا النظام وشرعنوا سياساته، أو على الأقل مارسوا الصمت المدفوع بالمصالح أو الخوف. هنا برزت إشكالية أخلاقية وإنسانية: هل سيعترفون بمسؤوليتهم الأخلاقية عن تمجيد نظام تورط بجرائم حرب وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، أم سيحاولون التنصّل والتهرّب من المسؤولية عبر الإنكار وإيجاد التبريرات؟
الاختباء خلف الإصبع
بعض الفنانين الذين كانوا رموزاً للولاء – سواء بشكل علني أو مبطن – سارعوا بعد سقوط النظام إلى مهاجمته والإدلاء بشهادات وتصريحات تعيد صياغة دورهم في المرحلة السابقة، محاولين الإيحاء بأنهم كانوا مغيّبين أو مضللين. آخرون، ومنهم من لا يختلف على حجم حضوره الفني مثل بسام كوسا، اتخذوا منحى مغايراً، رافضين حتى مبدأ الاعتذار. فقد أظهر كوسا، وفق ما هو شائع عنه، إنكاراً صريحاً لمعرفة جرائم النظام، مصوّراً نفسه كمن كان خارج دائرة العلم بالانتهاكات رغم أنها كانت ماثلة للرأي العام الإقليمي والدولي، ناهيك عن السوريين في الداخل. هذا الموقف يفتح الباب لتساؤلات حول الصدقية الأخلاقية لهؤلاء الفنانين، ومدى فهمهم لدور المثقف أو الفنان في مواجهة الظلم.
الادعاء بعدم معرفة الجرائم والفظائع – كالبراميل المتفجرة التي ألقاها النظام على مناطق مدنية وقتل المدنيين واعتقال المعارضين وتعذيبهم في السجون – يصعب تصديقه. فقد تم توثيق هذه الانتهاكات بتقارير دولية صادرة عن منظمات حقوقية مثل “هيومن رايتس ووتش” و”منظمة العفو الدولية” و”اللجنة الدولية للصليب الأحمر”، فضلاً عن تغطيات إعلامية محلية ودولية.
إنكار معرفة هذه الحقائق يمثل تنصّلاً صريحاً من المسؤولية الأخلاقية، وإعادة تموضع أمام الجمهور وكأن الفنان كان يعيش في عزلة سياسية واجتماعية، أو أنه كان مجرد “فنان” لا شأن له بالسياسة.
تاريخياً، يُنظر إلى الفنان والمثقف بوصفه ضمير المجتمع، وشريكاً في صياغة الوعي وصقله. الفن ليس مجرد أداء وترفيه، بل رسالة إنسانية وقيمية. وعليه، فإن محاولة التهرّب من الاعتذار أو الاعتراف بالذنب بعد انكشاف الواقع يعد خروجاً عن هذه الرسالة. إن هذا التعامي الأخلاقي يفقد الفنان كثيراً من مصداقيته ويشوّه صورته أمام جمهوره، الذي كان ينتظر منه موقفاً نبيلاً أو على الأقل اعترافاً بالوقائع. فالثقافة موقف قبل أن تكون إبداعاً، والفنان يدفع ثمناً أخلاقياً عندما يتنازل عن قيمته الإنسانية لقاء مكاسب وقتية.
آفاق المصالحة والذاكرة التاريخية
من الطبيعي أنه بعد سقوط نظام قمعي سيبدأ المجتمع في محاسبة الذاكرة: من أيد؟ من صمت؟ ومن قاوم؟ هذه المحاسبة ليست حكراً على المؤسسات القضائية فحسب، بل تمتد إلى الذاكرة الشعبية والثقافية. الفنانون الذين لعبوا دوراً في شرعنة الاستبداد سيجدون أنفسهم أمام تحدي إعادة صياغة هويتهم الفنية والأخلاقية. الاعتذار قد لا يمحو المسؤولية، لكنه خطوة نحو تصحيح العلاقة مع الجمهور والمجتمع. أما مواصلة الإنكار وتجاهل التاريخ القريب، فهو رهان خاسر، لأنه لن يصمد أمام موجات التوثيق والاستقصاء التي ستلاحقهم.
إن محاولة بعض الفنانين التحوّل في المواقف، أو إلباس أنفسهم ثياب الضحية المغيبة، أو الإصرار على الإنكار بعد سقوط النظام، يكشف هشاشة الدور الذي لعبوه في دعم منظومة الظلم. كما يؤكد الحاجة إلى إعادة طرح الأسئلة القيمية حول دور المثقف والفنان في مجتمع يُسحق تحت وطأة الاستبداد. فالتاريخ لن يرحم المتفرجين الصامتين، فضلاً عن المبررين المشاركين، وسيظل الضمير الجمعي مرجعاً أخلاقياً يحاسِب كلاً بحسب موقعه وموقفه. في نهاية المطاف، ستُكمل ذاكرة الشعوب الدور الذي لم تستطع بعض النخب الثقافية والفنية القيام به في وقته، لتعيد الاعتبار للحقيقة والعدالة.