مقالات

سلامة كيلة : الحل السياسي في سورية

جرت محاولة إعادة العلاقة بعد اغتيال رفيق الحريري والحصار الأميركي على سورية، واكتشاف السلطة أن أميركا تريد تغيير النظام، لكن السلطة مالت إلى التفاهم مع قطر وتركيا، وظلت عينها على أميركا. الثورة هي التي فتحت باب العلاقة “المتينة”، حيث توهمت السلطة أن أميركا سوف تستغل الظرف لكي تتدخل، خصوصاً بعد التدخل في ليبيا، فاندفعت لعقد صفقة مع روسيا، لكي تحمي نفسها بمنع مجلس الأمن من إعطاء الشرعية لأي تدخل عسكري.

وكان المقابل الحصول على مصالح اقتصادية هائلة، منها النفط والغاز، ومشاريع اقتصادية (وهذا ما جرى توقيعه في أغسطس/آب سنة 2012)، وأيضاً توسيع قاعدة طرطوس البحرية. بهذا، باتت روسيا تعتقد أن الالتزام بهذه الاتفاقات مرهون ببقاء بشار الأسد ومجموعته، وأن أي تغيّر في بنية السلطة قد يقود إلى إلغائها، خصوصاً وأن السلطة سوف تتوسع لتشمل مصالح دول أخرى، منها إيران، ومنها أميركا، وأن انفتاح العلاقة مع أميركا على ضوء ذلك يمكن أن يغيّر حتى في توجهات بشار الأسد ومجموعته.
يبقي هذا الأمر التشدد الروسي حيال إزاحة الأسد، مع ملاحظة أن بقاءه لا يفتح على أي أفق للحل، على الرغم من ذلك، تناور على أمل أن يتحقق لها الحل الذي يضمن استمرار مصالحها. نلمس، إذن، كيف أن ضعف السلطة إزاء الثورة، وانهيار قوتها الصلبة (الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة) قد جعلها ممسوكة من إيران وروسيا، لكن هاتين الدولتين لا تلمسان، إلى الآن، أن هناك بديلاً يمكن أن يحقق المصالح نفسها التي حصلت عليها من بشار الأسد، وأن أي تغير سوف يفقدها إياها.
في المقابل، نجد أن معارضة الداخل (هيئة التنسيق لقوى التغيير الوطني الديمقراطية خصوصاً) تراهن على “حل خارجي”، يتحقق عبر ضغط “القوى الدولية”، وأن معارضة الخارج (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة) تخضع لموقف بعض أطرافه، وخصوصاً هنا جماعة الإخوان المسلمين الذين يرون أنهم مستبعدون من الحل السياسي، ويخضع بعض آخر للدول التي يتبعها (السعودية، قطر وتركيا)، وآخرون يمكن أن يقفزوا لأي حل، يضمن لهم دوراً ما.
لهذا، نجد أن هناك من يريد الحسم و”إسقاط النظام”، مراهناً على تدخل عسكري دولي، أو إقليمي (تركي خصوصاً)، أو بدعم عسكري يغيّر موازين القوى على الأرض. وهناك من يتلمس المأزق، ويمكن أن يندفع إلى حل سياسي. لكن، في كل الأحوال، سيخضع “الائتلاف” ككل، أو هو خاضع، للقوى الدولية، وقد ظهر ذلك واضحاً في مؤتمر جنيف2، حيث فرضت أميركا أجندته. أما تركيا فتريد التدخل العسكري من أجل إسقاط النظام وفرض “سلطتها” التي هي بالضبط القوى المستبعدة من أي حل سياسي (أي جماعة الإخوان المسلمين وإعلان دمشق)، لكنها لا تستطيع التدخل من دون الموافقة الأميركية. لهذا، يبقى الأمر بيد أميركا. على الأرض، هناك كتائب مسلحة باتت تخضع لدول إقليمية، خصوصاً السعودية، مثل جيش الإسلام وكتائب إسلامية أخرى. وقد ظهر، في الفترة الماضية، كيف أن هذه الكتائب خضعت للتكتيك السعودي، فانسحبت حينما أرادت، ولم تتقدم لكي لا تضعف السلطة، واهتمت بتصفية الكتائب الأخرى.
ولهذا، سوف تخضع لكل حل تقبل به تلك الدول. وحتى الكتائب الأخرى التي تتلقى بعض الدعم سوف تتراجع أمام توقف الدعم. بالتالي، سوف نجد أن كل هذه القوى سوف تقبل الحل حال وافقت الدول الداعمة، الأمر الذي يجعل المسألة تتعلق بمفاوضات السعودية وقطر وأميركا التي ستفرض هي على الآخرين الحل، حين يتم التوصّل إليه.
إذن، الحل مرتبط بتوافق رباعي، كما يمكن أن نلمس، بين أميركا وروسيا وإيران والسعودية. كان مرتبطاً، أولاً، بكل من أميركا وروسيا، وهو ما أنتج مبادئ جنيف1 ومؤتمر جنيف2، لكن الموقف الروسي الذي يريد مشاركة الأسد أفشل الحل في جولة المفاوضات الأولى. وقد ارتبكت روسيا بعدها بأزمة أوكرانيا، ومن ثم تصاعد الضغط الأميركي عليها، وبالتالي، التدخل الأميركي في العراق والتمدد إلى سورية، بحجة الحرب ضد داعش. لنصل إلى وضعية جديدة في التفاوض، جعلت الحل في سورية مرتبطاً بتفاهم أميركي إيراني أعم، وتفاهم أميركي روسي أوثق.
أي حل يمكن نجاحه؟
المطروح حلٌّ يجري التداول بشأنه بين هذه الدول يتراوح بين بقاء نظام الأسد مع إشراك أطراف معارضة في السلطة، و”توسيع” هامش المشاركة السياسية، وهو ما زالت روسيا وإيران تصرّان عليه، وبين تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحية من طرف من السلطة وأطراف المعارضة و”تكنوقراط” كما تنص مبادئ جنيف1، وكما تصرّ كل أطراف المعارضة إلى الآن.
وقد نص التوافق الأميركي الروسي، منذ نهاية يونيو/حزيران سنة 2012، على مبادئ جنيف تلك، على أن ترعى روسيا الحل، أي أن تكون لها الكفة الراجحة. لكن روسيا لم تفعل ذلك، وبالتالي، ظل الحل يتراوح بين الصيغتين. مَن سيتنازل مِن الطرفين، الروسي الإيراني والأميركي السعودي؟
ربما كانت القوى الكبرى تعتقد أن توافقها كافٍ لإنجاح الحل. لكن، أظن أن في ذلك خطأ كبير، بالضبط لأن طرفاً ثالثاً هو الذي يُنجح الحل أو يفشله، هو الثورة، أي الشعب السوري، وكثير من الثائرين الذين يحملون السلاح، أو ينشطون سياسياً، أو في الإعلام أو في الإغاثة، أو حتى في التحريض والتظاهر المحدود.
ولا شك في أن الوضع بات صعباً للغاية، نتيجة الوحشية التي ترتكبها السلطة، والتهجير الكبير الذي حدث، وانهيار الاقتصاد، والوضع الأمني الرديء للغاية. وأيضاً، دور القوى المتطرفة ضد الشعب، من داعش إلى جبهة النصرة إلى جيش الإسلام، وكتائب عديدة أخرى تمارس سلطة قروسطية وحشية كذلك على الشعب في مناطق سيطرتها.
إضافة إلى انسداد الأفق أمام تحقيق الانتصار على السلطة، وغياب الهدف من الثورة، بعد تصاعد دور القوى الأصولية، ووضوح وقوف كل الوضع الدولي إلى جانب السلطة، وتآمرها على الثورة. وبالتالي، تحوّل الصراع ضد السلطة إلى صراع مع إيران وأدواتها (حزب الله والمليشيا الطائفية العراقية)، أي هو صراع أكبر من قدرة الشعب السوري. على الرغم من ذلك كله، لا بد من أن يكون واضحاً أن أي حل لا يوافق عليه الشعب لن يكون مصيره سوى الفشل، حيث أن رفضهم له سوف يعني استمرار الصراع المسلح، واستمرار تفكك بنى الدولة، التي لن تستطيع مواجهة الوضع لفرض الحل، حتى مع بقاء قوى إيران. فالحل يقتضي أن يقبل الشعب النتيجة، على ضوء موازين القوى، وعلى ضوء مطمحه الذي فرض تفجير الثورة.
على الأقل، كما حصل في البلدان الأخرى التي واجهت ثورات. خصوصاً هنا أن السلطة مارست كل الوحشية التي أخافت حتى مناصريها، أو المحسوبين عليها، كما طالت كل الشعب. لقد دمّرت السلطة وحرقت لكي تبقى، وقتلت مئات آلاف الشباب، من الثورة ومن القوات التي زجتها ضد الثورة، وأظهرت وحشيتها كاملة. كيف، بالتالي، يمكن أن يتحقق حل في ظلها؟
بالتالي، حتى وإنْ جرت الموافقة من المعارضة كلها على حل يبقي بشار الأسد، فإن هذا الحل سيفشل. خصوصاً أن المعارضة ليست المتحكم بمسار الثورة، ولا بالكتائب المسلحة، بل إن إشراكها طرفاً في الحل هو نتاج الحاجة إلى تمثيل “الثورة” في الحل. ولهذا، إن مقياس قبولها هو تمسكها بالحل الذي يبعد بشار الأسد ومجموعته، وإلا ستسقط. هنا، نلمس أن الذي يحدد الحل في الأخير هو الشعب. طبعاً ليس كما طالب منذ البدء (على الرغم من أن مطالبته كانت غائمة)، بل بما هو “حدٌّ أدنى” يتمثّل في ترحيل الرئيس ومجموعته. بالتالي، كل حل دولي سيكون محكوماً بسقف الحد الأدنى هذا. وإلا فالصراع مستمر إلى أن تتغير موازين القوى، أو تقتنع كل من روسيا وإيران أن عليهما ترحيل الرئيس ومجموعته، وفتح الأفق لمرحلة انتقالية تحت سلطة هيئة حكم انتقالية.
تريد السلطة، إذن، أن تنتصر، والشعب أيضاً يريد أن يغيّر. وفي ظل الاستعصاء القائم نتيجة فوضى الثورة والتدخلات الإقليمية والدولية، وفي ظل ارتباط الحل بقوى خارجية، لا بد من حل يوصل إلى “استقرار”. والحل الوسط الوحيد لتحقيق ذلك رحيل الرئيس وحاشيته، وتشكيل هيئة حكم انتقالي. هذا ما لا بد من أن يجري التوافق عليه دولياً، لكي ينجح، لكن نجاحه مرتبط بتحقق هذه الصيغة بالذات، وليس بما يطرح الروس والإيرانيون. وبالتالي، إن استمرار الصراع والأخطار الإضافية التي يمكن أن تنتج عن ذلك هي من فعل هؤلاء الآن.
ساهما في المجزرة التي قامت بها السلطة، وهما مسؤولان عن الاستمرار بها. فالشعب السوري يُسحق خدمة لمصالح كل من إيران وروسيا. بالتالي، من يريد وقف الدم وإنهاء المجزرة يجب أن يحمّل المسؤولية لكل من إيران وروسيا، وأن يعرف أن وقف الدم يستلزم فقط ترحيل الرئيس وحاشيته. وليس من وقف للصراع دون ذلك، ليس لأننا نريد، فنحن خارج القرار، بل لأن الشعب الذي يقاتل لن يقبل حلاً لا يفضي إلى رحيل هذا “النظام”.

العربي الجديد _ وطن اف ام

زر الذهاب إلى الأعلى