أخبار سوريةمقالات

هل تواجه سوريا خطر الاستبداد الناعم؟

بعد سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول 2024، فتحت سوريا صفحة جديدة، محملة بآمال التغيير والخروج من سنوات القمع والدمار. مع هذا التحول الكبير، تبرز أسئلة كثيرى لكن برأي هناك السؤال الأكثر إلحاحًا: هل تسير سوريا نحو بناء ديمقراطية حقيقية، أم أن القيادة الجديدة قد تجد نفسها تنجرف، بوعي أو دون وعي، نحو نموذج من الاستبداد الناعم؟

الاستبداد الناعم ليس قمعًا تقليديًا، لكنه أسلوب حكم يضبط المشهد السياسي بوسائل أكثر دهاءً، دون اللجوء إلى العنف المباشر أو القمع الفج. قد تُتاح مساحات من الحرية، لكن ضمن حدود مرسومة بدقة، ويبقى النظام ممسكًا بمفاصل الدولة عبر الإعلام، الاقتصاد، والقوانين التي تبدو ديمقراطية من حيث الشكل، لكنها في جوهرها تُستخدم كأدوات لضبط المعارضة وإعادة إنتاج السلطة.

الاستبداد الناعم لا يعتمد على القمع المباشر، بل يتخذ أشكالًا أكثر دهاءً للحفاظ على السلطة دون إثارة ردود فعل عنيفة. من أبرز علاماته السيطرة على الإعلام بطرق غير مباشرة، حيث يُسمح بقدر من حرية التعبير، لكنه يبقى ضمن حدود مدروسة، مع إضعاف الأصوات المستقلة عبر التوجيه، الترهيب، أو التمويل الانتقائي. الانتخابات تظل قائمة، لكنها غالبًا ما تكون محسوبة النتائج من خلال قوانين انتخابية تخدم السلطة، أو عبر التضييق على المرشحين المستقلين. القضاء بدوره يبدو مستقلًا في الشكل، لكنه يُستخدم كأداة لتصفية المعارضين عبر قرارات قانونية تستند إلى تهم فضفاضة مثل “الإضرار بالأمن القومي”.

يظهر الاستبداد الناعم أيضًا في تحكم الدولة بالاقتصاد، حيث تمنح الامتيازات والصفقات لرجال أعمال موالين، مما يعزز الولاءات السياسية على حساب المنافسة العادلة. أما الأمن، فلم يعد يعتمد على القمع الصريح، بل على أساليب أكثر subtile، مثل المراقبة المستمرة، التضييق على الناشطين، والاستدعاءات المتكررة. في الوقت نفسه، يُسمح بوجود معارضة شكلية، لكنها تبقى ضعيفة ومحدودة التأثير، بينما يُستخدم الخطاب الرسمي لتخوين أي مطالب بالحريات، وتصويرها كتهديد للاستقرار أو تدخل خارجي. هكذا، يتحول الاستبداد إلى نظام متكامل يحافظ على واجهة ديمقراطية، لكنه عمليًا يُفرغها من مضمونها، ويمنع أي تغيير حقيقي.

البيئة السياسية التي خلفها النظام السابق لا تزال حاضرة بقوة. عقود من الحكم السلطوي رسخت ثقافة مركزية القرار، وأنتجت مؤسسات اعتادت على العمل وفق توجيهات فوقية. تفكيك هذه البنية ليس بالأمر السهل، وقد تجد القيادة الجديدة نفسها أمام إغراء تبني استراتيجيات “انتقالية” لضبط المرحلة الجديدة، لكنها قد تتحول بمرور الوقت إلى نهج دائم.

الضغوط الإقليمية والدولية تلعب دورًا رئيسيًا في تحديد مسار الحكم الجديد. دول الجوار، التي تتخوف من انعكاسات التجربة الديمقراطية السورية على أوضاعها الداخلية، قد تدفع نحو نموذج استقرار سياسي يفضّل الانضباط على الحرية. القوى الدولية بدورها لن تتوانى عن دعم حكومة تضمن مصالحها، حتى وإن كانت تتبع نهجًا سلطويًا مموهًا، ما دامت قادرة على فرض الاستقرار ومنع الفوضى.

العامل الأمني يظل أحد أكبر التحديات. الأجهزة الأمنية والعسكرية التي كانت أدوات القمع في العهد السابق، لن تختفي بين ليلة وضحاها، وقد يتم دمجها في النظام الجديد دون إصلاح حقيقي، ما يفتح الباب أمام استمرار أساليب الرقابة والتضييق، وإن بأسلوب أكثر نعومة. تكررت هذه السيناريوهات في دول أخرى شهدت تغييرات سياسية، حيث تبنّت الحكومات الجديدة سياسات ضبط حذرة، لكنها انتهت إلى إعادة إنتاج النظم السابقة بأساليب حديثة.

التجربة المصرية بعد 2013 تقدم نموذجًا مشابهًا، حيث بدأ المشهد بمساحة من الحرية السياسية، سرعان ما تقلصت تحت ذرائع الأمن والاستقرار. روسيا بدورها، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، عاشت تحولات سياسية انتهت إلى نظام سلطوي هجين، يحافظ على ملامح الديمقراطية، لكنه عمليًا يحتكر المشهد السياسي والإعلامي. حتى تركيا، التي كانت نموذجًا لديمقراطية ناشئة، اتجهت بعد محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016 إلى تضييق الخناق على الإعلام والمعارضة، مع الحفاظ على الهيكل الديمقراطي من الخارج.

رغم هذه المخاطر، لا يزال هناك متسع لبناء تجربة مختلفة في سوريا. الدستور الجديد سيكون حجر الأساس في تحديد شكل النظام، فإذا تضمن ضمانات حقيقية لمنع احتكار السلطة، فقد يكون نقطة تحول، مثلاً وجود إعلام مستقل، وانتخابات نزيهة، وإصلاح جاد للأجهزة الأمنية، كلها عوامل قد تمنع انزلاق البلاد نحو استبداد بواجهة ديمقراطية.

المستقبل لم يُحسم بعد، وسوريا تقف على مفترق طرق، فالتحديات ضخمة، لكن الشعب السوري الذي دفع ثمنًا باهظًا لحريته لن يتنازل عنها بسهولة. المعضلة اليوم ليست في سقوط الاستبداد القديم، بل في القدرة على منع ولادة استبداد جديد، بوجه مختلف وأدوات أكثر تطورًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى