على الرغم من تراجع سيطرة النظام إلى نحو 30% من الأراضي السورية، وتقدم “داعش” والمعارضة في مختلف المناطق في الشمال والجنوب، تتجه حكومة دمشق إلى تنفيذ سلسلة مشاريع استثماريه كبيرة، منها إنشاء مصانع لتكرير النفط، ومحطات لتوليد الكهرباء، ودخول ايران باستثمارات ضخمه للحصول على أكبر حصة من هذه المشاريع.
وتبرز أهمية الاستثمارات الإيرانية بأنها تأتي في ظل تطورات جيوسياسية وديموغرافية تصب في خطط متعددة ومتنوعة في تقسيم سورية في ضوء النتائج العسكرية على الأرض، خصوصا بعد سقوط تدمر واحتلالها من قبل “داعش” وسيطرة المعارضة على معظم مدينة حلب، ودير الزور وادلب وجسر الشغور، وما يدور من أحاديث سياسيه عن بدء النظام بتنفيذ الخطة “ب” من الحرب، والتي تهدف إلى الاحتفاظ بسيطرته على المناطق الممتدة من حدود تركيا عند الساحل وصولاً إلى مدينة طرطوس على الحدود اللبنانية، وامتداداً إلى أجزاء من محافظات حلب وحماه وحمص، وبعض أريافها، حتى مدينة دمشق، وتشمل الخطة جعل هذه المناطق آمنه في ظل وجود نحو 175 ألف رجل تحت أمرة بشار الأسد، وهم ينضوون في صفوف الجيش والميليشيات ومقاتلي حزب الله والمقاتلين الشيعة الأفغان.
وإذا كان نظام الأسد يعيش حاليا في ضائقة اقتصاديه لا سيما بعد هزائمه العسكرية، فإن سلسلة الاتفاقات التي وقعها مؤخراً مع إيران تسمح بتدفق الاستثمارات الإيرانية لتمويل مشاريع عدة تضمن بقاءه في السلطة، وهي تهدف إلى توسيع آفاق التعاون في إطار استراتيجي بعيد المدى، ويشمل النفط والغاز والاستكشاف والاستخراج، وكذلك مجال الكهرباء لجهة الصيانة وإنشاء محطات توليد جديدة ومراكز تحويل وشبكات كهربائية، فضلاً عن القطاع الصحي وإنشاء مصانع جديدة للأدوية.
وتؤكد هذه الاتفاقات أن المساعدات الاقتصادية الإيرانية لنظام الاسد لم تكن بمعزل عن السعي الايراني للسيطرة على الاقتصاد السوري والحصول على أكبر حجم من الاستثمارات في ورشة إعادة الإعمار، ويمكن الإشارة إلى أن ذلك يترافق مع تقارير حول حركة شراء واسعة لمستثمرين ايرانيين شملت عقارات وفنادق في العاصمة دمشق ومناطق تمركز العلويين، في محاولة لاستغلال التسهيلات التي يمنحها النظام في تعزيز تواجد ايران الاقتصادي ودعم ملكيتها للأصول في سوريا، مقابل خطوط ائتمان قدمتها له وتجاوزت قيمتها العشرة مليارات دولار منذ مايو/ آيار 2013، وتهدف طهران إلى تثبيت قدرتها على مواجهة أي احتمالات لسقوط هذا النظام، وتدعيم بقاء الطائفة العلوية مالياً واقتصادياً بغض النظر عن التحولات السياسية.
ويلاحظ عدد من المراقبين الاقتصاديين أن النظام يتعاطى مع بعض المدن والمناطق السورية وكأنها خارج الحدود، وذلك في خطوة يمكن البناء عليها في احتمالات تقسيم البلاد، ويرى الاقتصادي حسن جميل أن ثمة مؤشرات على أن الأسد تخلى فعلياً عن أكثر من 60% من مساحة سوريا، فعلى الرغم من أن الموازنة العامة لعام 2015 قد بلغت 1554 مليار ليرة، إلا أن المناطق المحررة لا تنال أي مخصصات استثماريه أو تنفيذ مشاريع أو خدمات محددة، حتى إن رواتب الموظفين قطعها النظام وكان آخرها موظفي مدينة إدلب.
كهرباء .. ونفط
تراجع انتاج الكهرباء في سوريا بنسبة 56% خلال سنوات الحرب، إذ كان يبلغ 50 مليار كيلو وات ساعة في مارس/ أذار 2011، وانخفض بنهاية العام 2014 إلى 22 مليار كيلو وات، وتراجعت نتيجة لذلك التغذية وتضاعفت ساعات التقنين في مناطق واسعة بسبب تعرض المعامل والمحطات للتخريب والقصف، إضافة إلى أن الوضع الأمني المتدهور يحول دون وصول الوقود، وتدعم الحكومة الكهرباء، بنحو ملياري دولار سنوياً، حيث يكلف الكيلو وات نحو 30.5 ليرة بينما يدفع المواطن فقط 1.32 ليرة من هذه الكلفة.
وتتجه الحكومة إلى جذب استثمارات وتوطين مشاريع من نوع خاص، منها اقتراح وزارة الكهرباء بإنشاء محطات لتوليد الكهرباء اعتماداً على الطــاقة الشمسية بـ “اللواقط الكهروضوئية” وباستطاعة 500 ميغاوات، وهي تدرس عرضا قدمته شركة “كينيتك” التي ستقوم بتصميم وتطوير وتمويل وبناء وتشغيل منشآت التوليد، وتسليم الكهرباء بموجب اتفاقية شراء الطاقة لمدة 25 عاماً، وتأخذ على عاتقها تمويل المشروع البالغة كلفته نحو ملياري دولار .
وإضافة إلى شركة “كينيتك” المتخصصة بخدمات الطاقة المتجددة ومقرها دبي في الإمارات العربية المتحدة، هناك شركات إيرانية أبدت استعدادها للدخول في استثمارات لتمويل إنشاء محطات لتوليد الكهرباء.
أما في قطاع النفط، فقد أعلنت وزارة النفط السورية أنها اطلقت للمرة الأولى استدراج عروض لشركات أجنبية لاستثمار مصفاتين في وسط البلاد وشمال غربها وتشغيلهما بنفط يستورد من الخارج، وحدد هذا العرض لعام واحد ويتعلق باستثمار طاقة التكرير بـ 3.3 ملايين برميل شهرياً، موزعة بين 1.8 مليون لمصفاة في مدينة بانياس على الساحل و 1.5 مليون برميل لمصفاة في مدينة حمص.
وتدرس الوزارة حالياً عروضاً مقدمة من شركة روسية لاستيراد النفط الخام على نفقتها إلى سوريا وتكريره في المصفاتين.
لقد كانت سوريا قبل الحرب، تنتج 385 ألف برميل نفط يومياً، ولكنه تراجع إلى أقل من 11 ألف برميل يومياً فقط، أي إلى نحو 3.5%، ووفق تقدير مؤسسة النفط السورية، بلغت الخسائر نحو 17.7 مليار دولار، منها خسائر الإنتاج المباشرة بنحو 2.4 مليار دولار، وخسائر الانتاج غير المباشرة بنحو 15.3 مليار دولار، وعزت السلطات ذلك نتيجة سوء الأوضاع الأمنية في مناطق تواجد الحقول والاعتداءات التي تعرضت لها من حرق وتخريب، بالإضافة إلى العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الدول الاوروبية والولايات المتحدة على استيراد وتصدير النفط من سوريا وإليها، لا سيما وأن معظم الحقول النفطية تقع في شمال البلاد وعرضها، وهي تحت سيطرة مقاتلي المعارضة أو المقاتلين الأكراد، وكنتيجة طبيعية لتدهور الأوضاع انسحبت 11 شركة أجنبية من العمل في قطاع النفط بعد أن تكبدت خسائر قدرت بنحو 6.4 مليارات دولار.
تقاطع مصالح
إذا كان للولايات المتحدة قواعد متعددة في الخليج وتسهيلات كبيرة في عدد من بلدان المتوسط، فإن لروسيا قاعدة واحدة فقط لقواتها البحرية في مدينة طرطوس على الساحل السوري، وقد وفر الوجود الروسي للمنطقة الجغرافية بين مدينتي طرطوس وبانياس وضعاً أمنياً متميزاً طوال فترة الحرب المستمرة منذ نحو أربع سنوات، الأمر الذي جعلها ملاذاً آمناً لنازحين من مناطق سوريه مجاورة في الداخل غير مستقرة، وساهم ذلك في كثافة السكان وارتفاع عدد الشقق المبيعة والمؤجرة، وعلى الرغم من أن معظم سكان هذه المنطقة والتي تشمل أيضاً مدينة اللاذقية والقرى المجاورة لها، هم من الطائفة السنية، إضافة إلى المسيحيين والعلويين، فإن الشعور السائد لدى المقيمين بأن المستقبل سيشهد دولة علويه يتعايش فيها الجميع، إنما بقيادة علوية قد تكون من نصيب الرئيس السوري بشار الأسد.
ومن هنا، تبرز أهمية النفط السوري الموعود ليكون مورداً اقتصادياً للدولة المرتقبة، ويبرز في الوقت نفسه هدف استراتيجي جيوسياسي لروسيا في سوريا، ولذلك وقعت شركة “سيوز نفط غاز” الروسية الحكومية في آواخر العام 2013 عقدا للتنقيب في الامتداد البحري بين طرطوس وبانياس وعلى عمق 70 كيلو متراً وبمساحة اجماليه 2190 كيلو متراً مربعاً، ولمدة 25 سنة، وتبلغ تكلفة الصفقة 100 مليون دولار، وهي تقديرات الحد الأدنى، إذ أن تكلفة يوم الحفر الواحد تقارب 80 ألف دولار، وستنفق الشركة الروسية في المرحلة الأولى نحو 15 مليون دولار، لتحديد فرص الحفر الممكنة، تمهيداً لحفر بئر استكشافية واحدة كحد أدنى، يليها زيادة للإنفاق المتبقي بما يزيد عن 75 مليون دولار في المرحلة الثانية، وفي حال نجاح عمليات التنقيب والحصول على كميات تجارية من الغاز والنفط، ستقوم الشركة لاحقا بأعمال التطوير.
ويبدو أن الأميركيين ليسوا بعيدين عن هذا الهدف الجيوسياسي، وسبق لهم أن وضعوا دراسات بإشراف وزارة الخارجية خلال تولي هيلاري كلينتون مسؤوليتها، توصي بأن يكون استغلال نفط سوريا في أيدي شركات أميركية، وخصوصاً الشركة التي اكتشفت حقول الغاز في اسرائيل، والتي يمثلها في علاقاتها بالدوائر الأميركية الرئيس السابق بيل كلينتون، وهي في الوقت نفسه تسعى لاستغلال هذه الثروة المرتقبة في سواحل لبنان البحرية، وذلك انطلاقاً من حرص الأميركيين على ضرورة أن يكون تطوير موارد شرق البحر المتوسط تحت سيطرتهم، وأن يؤدي إلى تصدير الغاز إلى تركيا، ومن ثم إلى الأسواق الأوروبية، فتكون النتيجة تقليص دور روسيا في مجال تزويد تركيا الغاز، الذي هو على مستوى 70% من حاجتها حاليا.
وهكذا تبرز خطورة الصراع الاستراتيجي الدولي بين روسيا والولايات المتحدة في الحرب السورية. .
الأناضول _ وطن اف ام