منذ نعومة أنامله، يواظب الصقّار صالح الغضبان من قاطني ناحية عين عيسى (60) كم شمالي مدينة الرقة على ممارسة مهنة صيد الطير الحر خارج البلاد، حيث كانت تركيا المجاورة مسرحا له ليقوم بمهنة الرزق حسب ما يصفها الصقّارون.
يتجه صالح، للمنطقة الصحراوية الممتدة من شمال الرقة وحتى الحدود السورية مع تركيا المجاورة، وكله أملٌ أن يحصل على صقر يبيعه يمكنه من جمع ثروة من خلال هواية كان يراها ولا يزال بأنها مهنة المحترفين.
صالح ورغم تقدمه في العمر إلا أنه يقول لوطن إف إم إنه يواظب على صيد الطير الحر، حاله كحال الكثير من عشاق المهنة التي لا يراها الكثير من أهالي الرقة بأنها مهنة جلب الأرزاق بنسب متوسطة، حيث أن احتمالية صيد طير حر في بادية كانت مسرحًا لحدوث معارك طيلة سنوات الحرب السورية العشر تكاد تكون معدومة.
ويعتبر الكثيرون من صيادي الطيور الحرة والذين يسمون بـ “الصقّار” أن المتعة التي يعيشونها أثناء مشاهدة الطير وهو ينقض على الطعم الذي نصبوه له تكاد تتجاوز المتعة لمشاهد مباراة أو متسابق يتجاوز خط النهاية قبل منافسيه.
وعلى الرغم من أن الرقة منطقة شبه صحراوية في معظم أريافها وتعد بيئة مناسبة لاصطياد الطيور إلا أنها لا تعد الأشهر في سوريا والأكثر تواجدا للطير الحر، حيث تأتي منطقة القلمون الشرقي بريف العاصمة دمشق في المرتبة الأولى مقصدا للصقارين في سنوات ما قبل الثورة بحسب “الصقّار” الغصبان.
صحاري الرقة مقصد “المقانيص”
في أطراف بادية المعيزيلة الخاضع لقوات سوريا الديمقراطية بريف الرقة الشمالي، زرنا خيمة المقناص صالح الغضبان، و”المقناص أو القانوص” مصطلح محلي بحسب اللكنة العامية لمناطق الجزيرة السورية يطلق على صائد الطير الحر وتختلف تسمياته باختلاف المناطق السورية.
التقينا بصالح، وروى لنا تفاصيل يومياته مع الصيد وأنواع الطيور التي يصطادها وأيها المفضل وما هي الثروة التي جناها من هوايته، فقال: “بدأت الصيد منذ صغري، جمعت الكثير من الأموال، كنت أقصد تركيا لمتابعة المهنة”.
ويضطر صالح لترك منزله لمدة قد تصل أحيانا لـ 90 يوما، وتزيد وتنقص بحسب موسم الصيد وصبره على مطاردة الطيور أو اكتفائه بطير واحد يكون قد اصطاده في بداية الموسم وفضّل الاكتفاء به في العام.
وتنقص احتمالية اصطياد طير في الآونة الحالية رغم استقرار الوضع العسكري فيها، بسبب هجرة الطيور للمناطق الآمنة في السنوات الماضية أبرزها تركيا المجاورة، باعتبار أن العراق حاله كحال سوريا لا يصلح لاستقرار الطير.
قوانين حازمة
للصيد قوانين لا يمكن للمقناص تجاوزها، حتى ولو كان في الفلاء لوحده، ولا يمكن لصياد أن يتدخل في صيد مقناص آخر حتى لو قام هو باصطياد الطير الذي جاء لطعم الصياد الأول، حسب ما يوضح الغضبان.
وعن القوانين الأخرى يشير القانوص الذي اعتاد الصيد برفقة أحد أصدقائه، قائلا “لا يمكن للقانوص أن يشارك صياد ما في صيده إلا إذا طُلب منه مساعدة، وتكون المساعدة في أفضل الأحيان جلب طعم أو مراقبة الطير المراد صيده”.
أسعار خيالية
انتشرت مهنة الصيد في سوريا في عشرينيات القرن الماضي، وكانت مدينة الرحيبة بريف القلمون مركزا للصيد والتجارة، ومع استقرار الوضع في سوريا في سبعينيات القرن الماضي ازداد الإقبال على الصيد بسبب الأسعار العالية التي كان يتلقاها الصقّار لقاء صيده الذي رُزِق به.
زادت المنافسة وارتفعت الأسعار، لكن أعداد الطيور لم تتمكن من مواكبة الطلب، إذ بدأت بالتدهور سريعًا منتصف القرن الماضي، دافعة عشاقها للسفر داخل سوريا وخارجها للحاق بها وقنصها.
انتشار هذه المهنة في دول الخليج العربي “الغنية” وسهولة إيصال الصيد للخليجيين دفع البعض لجعل الهواية كمهنة ممزوجة بها، يملأ الصياد وقته بالتسلية من جانب ويجني أموالا وفيرة.
ويختلف سعر الطير الحر باختلاف نوعه وعمره وشكله وبنيته، ويصل سعر بعض الطيور لقرابة الـ 70 مليون ليرة، حوالي “20 ألف دولار أمريكي”.
أما عن التصريف، فبحسب صالح، يكون عن طريق وكلاء من منطقة الرحيبة الشهيرة صيد الطيور الحرة، يقومون بإيصال الطير إلى مناطق الخليج العربي عبر مطارات لبنان.
فترتان للصيد
يبدأ الغضبان موسمه في الصيد مع بداية فصل الخريف في الشهر التاسع من كل عام، يجهز متاعه ويغوص في الصحاري، يبقى طيلة المدة التي ذكرناها آنفا.
في هذه الفترة يقوم الصقّار بالخروج قبل شروق الشمس لملاحقة الطير ومحاولة إيقاعه في فخه الذي يكون عبارة عن حمامة يضع عليها بعض الخيوط التي تعيق حركة الطائر الحر عندما يقوم بالإمساك بالطعم، وتسمى هذه بالفترة الصباحية.
أما في الفترة المسائية فقد يكون الصيد أفضل بحسب بعض الصيادين، فالطائر لا يستطيع النوم إلا بعد الحصول على عشاءه، وبذلك تكون الفرصة مواتية إلى حد ما.
ازدياد ممتهني الصيد لاقى تشجيعا من الجهات المحلية، فعلى الفور بادرت منظمات المجتمع المدني التي تتبع لمجلس الرقة في الإدارة الذاتية بتشكيل جمعية أطلقت عليها اسم جمعية الصقّارين في العام 2019، ولاقت قبول من جميع القوانيص، بحسب ما صرح به رئيس الجمعية “فلان الفلان” لوطن إف إم.
ويقول فلان الفلان إن “الجمعية ساهمت في الفترة الماضية بحل جميع المشاكل التي تواجه الصقّارين، ومن ثم أصدرت بطاقات خاصة بالصيادين والتجار أيضا، وتم التنسيق والتنظيم ما بين الاتحادات لتطوير المهنة أكثر”.
وتعد مهنة صيد الطيور الحرّة بمثابة إرث حضاري باعتبار أن الكثير من سكان المنطقة كانوا يمارسون المهنة، وفي الأعوام التي تلت بداية الألفية الحالية أصبحت مقصدا لصقّارين غير سوريين وغالبيتهم من الدول الخليجية.