رغم التفاصيل المرعبة التي “لا يمكن أن يتخيلها عقل” ورواها معتقلون سابقون في سجن “صيدنايا” العسكري سيء الصيت عن “غرف الملح”، إلا أنها تكاد أن تكون تفصيلا صغيرا، بالنظر إلى القصة الكاملة التي ستنشر قريبا عن “الثقب الأسود” أو “المسلخ البشري” و”معسكر الموت” في سوريا.
ومن المقرر أن “صيدنايا”، وبعد سبعة أيام “لن يبقى ثقبا أسودا” كما كان في السابق، إذ يستعد حقوقيون ومعتقلون سابقون لنشر بحث هو الأول من نوعه عن السجن، يكشف بالتفاصيل الدقيقة الهيكلية الإدارية والعلاقات التنظيمية، التي تجري داخل أسواره وخارجها.
إضافة إلى آليات القتل المباشر والتعذيب وعمليات الإعدام، ودورة “اللاحياة” التي يعيشها المعتقل، منذ دخوله من الباب وحتى خروجه جثة هامدة، قبل أن يدفن لأيام بـ”الملح”.
ولطالما ارتبطت الكثير من الألغاز بهذا السجن، الذي سبق أن قالت منظمة “العفو الدولية” (أمنستي) إن “الدولة السورية تقوم فيه بذبح شعبها بهدوء”، في إشارة للنظام.
وبينما قدم الكثير ممن اعتقلوا فيه لسنوات قصصا لم ترو من قبل، بقيت الكثير من الأسئلة مفتوحة، من قبيل: ما الذي يحدث داخله؟ ولماذا؟ وكيف؟ ومن هم المسؤولون عن كل ذلك؟
ويتضمن البحث الذي أعدته “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” إجابات كاملة عن جميع الأسئلة المطروحة، حسب ما اطلع عليه موقع “الحرة”، فيما يستعد فريق الإعداد لنشره في يوم 27 من سبتمبر الحالي، متحفظا على نشره كاملا قبل هذا التوقيت.
وتضم الرابطة، التي تأسست في عام 2017 “ائتلاف للناجين” من “صيدنايا” والضحايا وعائلاتهم، وتسعى “لكشف الحقيقة وتحقيق العدالة للمعتقلين، بسبب رأيهم أو نشاطهم السياسي”.
كما تعمل أيضا على كشف مصير المفقودين والمختفين قسريا، بينما تقدم المشورة والدعم لأسرهم، وتوفر لهم المعلومات والاستشارات. وسبق وأن زودت صحف ووسائل إعلام غربية، من بينها “الغارديان”، “نيويورك تايمز”، “واشنطن بوست” بالكثير من المعلومات الخاصة بـ”صيدنايا”، والتي انتشرت في سياق تحقيقات استقصائية.
“فك اللغز الكبير”
وتعتبر “غرف الملح” التي كشفها معتقلون لوكالة “فرانس برس” محطة بين سلسلة محطات تمر بها آلة القتل المباشر أو تحت التعذيب التي ينفذها النظامبحق المعتقلين داخل “صيدنايا”.
قبل أن يدفن المعتقل في هذه القاعات الصغيرة لتأخير عملية التحليل، يمر بتراتبية بالتدريج، سواء من ناحية التعذيب الذي يتعرض له، أو الظروف النفسية التي يعيشها في أثناء نقله إلى الجهة التي “يخرج منها الداخل مولودا”، أو قبل ساعات من اتخاذ قرار إعدامه، من دون أن يعي ما ينتظره.
وبعد عملية دفنه لاعتبارات الحفاظ على الجثة أو لـ”إرهاب” بقية المعتقلين، يشرح البحث المكون من 60 صفحة المرحلة التي تتبع ذلك، بدءا من الطريق ووصولا إلى محطة “مشفى تشرين العسكري”، التي تسبق المقابر الجماعية.
وحسب ما اطلع موقع “الحرة” على خطوطه العريضة يستعرض البحث الذي يركّز أن “صيدنايا لم يعد ثقبا أسودا بعد الآن” على شرح ما هو موجود خارج أسوار السجن الواقع في مدينة صيدنايا، وينتقل للغوص في خفايا الداخل، بدءا من القائمين على هذا “المعسكر” من ضباط وصف ضباط وأفراد.
ينتقل بعد ذلك، ليشرح آلية إدخال المعتقل إلى “صيدنايا”، وكيف تتم عملية تقسيم هؤلاء بناء على خلفيات كل واحد على حدى (معارضون لنظام الحكم والأسد، متهمون بجرائم أخرى)، ويتحول بناء على شهادات عشرات الناجين والضباط المنشقين، كاشفا آلية اتخاذ قرار التعذيب والقتل، وحتى عملية نقل الجثث وإصدار شهادات الوفاة الخاصة بها.
وقبل سنوات كانت قد انتشرت صور أقمار اصطناعية للسجن من الجو، أظهرت كيف بني على شكل علامة “مرسيدس”. في حين يقف البحث المرتقب بشكل أكبر على هذه النقطة، ليقسم الأبنية إلى نوعين (أحمر، أبيض)، ثم ينتقل لتوضيح تقسيماتها الداخلية، من زنازين تعذيب واعتقال وأخرى خاصة بالإعدام الميداني أو الإعدام شنقا.
ورغم أن “صيدنايا” بات اسما شهيرا في آلة القتل التي استخدمها، ويستخدمها، النظام السوري ضد عشرات الآلاف من السوريين، إلا أنه يعتبر جزءا من منظومة أوسع، وهو ما سيتم الكشف عنه أيضا، من خلال تبعيته المباشرة، وتراتبية اتخاذ القرارات فيه، وعلاقته مع بقية المؤسسات الأمنية، فضلا عن أسماء الضباط الذين تعاقبوا على إدارته، منذ تأسيسه في ثمانينيات القرن الماضي.
ويقول الشريك المؤسس في الرابطة الحقوقية، دياب سرية، لموقع “الحرة” إن “البحث سيكشف الكثير من القصص داخل صيدنايا، بعدما انتشرت في بداية العام مواضيع مثل المقابر الجماعية، والاستغلال المالي”.
وقد يتردد سؤال كبير بعد الاطلاع عليه، لماذا كل هذه التراتبية والهيكلية الإدارية والتنظيمية للسجن؟ رغم أن أجهزة النظام الأمنية، وفق ما وثقت منظمات حقوقية قادرة على قتل أي معتقل بكل سهولة، ومن ثم إخفاء أثره كاملا، من دون الحاجة لشهادات الوفاة مثلا!
ويوضح سرية: “سألنا إحدى الرتب العالية التي عملت فيه سابقا عن هذا السؤال. أجاب: المعتقل عندما يموت داخل صيدنايا يصبح مثل البارودة (البندقية). يجب أن تسلم. هذه هي بيرقراطية الدولة”.
ويضيف الحقوقي والمعتقل السابق: “هذه هي الدولة المتوحشة. بكيانها وقوانينها وأنظمتها. هكذا حولها نظام الأسد”.
“رمز للسطوة على المجتمع”
ويشكل المدنيون، الذين تجرأوا على مجرد التفكير بمعارضة النظام السوري، الغالبية الساحقة من الضحايا.
وجرى منذ عام 2011 إعدام آلاف الأشخاص خارج نطاق القضاء في عمليات شنق جماعية تُنفذ تحت جنح الظلام، وتُحاط بغلاف من السرية المطلقة.
وقُتل آخرون كثر من المحتجزين في سجن صيدنايا، جراء تكرار تعرضهم للتعذيب والحرمان الممنهج من الطعام والشراب والدواء والرعاية الطبية. ويُدفن قتلى صيدنايا في مقابر جماعية، يوثق البحث أيضا أماكنها ومناطق توزعها بالصور.
ويصف سرية “صيدنايا” بـ”الرمز الذي يستخدمه النظام السوري لإرهاب الناس. هو يضع كل من يفتح فمه فيه. هيبة النظام هو رمز للسطوة على المجتمع”.
“مكان فيه أوامر ومحكمة ميدانية وتراتبية. هو جزء من كيان الدولة. البحث يكشف عن كل ذلك”.
وكان المعدون قد ترددوا في اتخاذ قرار نشر البحث، بعدما نصحت جهات ولجان وتحقيق دولية، بأن هذه المعلومات التي تكشف لأول مرة، من ِأنها أن تدفع النظام السوري لأي تغير أو إخفاء لمكان الجريمة.
لكن الحقوقي دياب سرية يرى أن “النظام السوري لن يغير أي شيء، وأن آلة القتل الخاصة به ستبقى مستمرة”.
وعلى اعتبار أن البحث المرتقب يخص “صيدنايا” بالتحديد، إلا أن المعتقلات الأخرى لا تختلف كثيرا عنه. “هي صيدنايا صغيرة، سواء أقبية المخابرات الجوية أو العسكرية أو السياسية”.
يتابع سرية: “المعتقل يتعرض للقتل حتى يعترف. لا تنته القصة ويرسل إلى صيدنايا. كثير من الأشخاص يقولون لماذا نتعرض للقتل في صيدنايا مجددا. هو معسكر موت مثل معسكرات النازيين أيام الحرب العالمية الثانية”.
وزاد: “النظام يقتل الناس فيه من أجل أن يتربى من في الخارج. هذه هي الدولة”.
وقد أعرب الاتحاد الأوروبي عن قلقه إزاء النتائج الواردة في التقرير الأخير حول سجن صيدنايا، وتفصيل “غرف الملح” الذي نشرته وكالة الصحافة الفرنسية.
وقال الناطق الرسمي للاتحاد الأوروبي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لويس ميغيل بوينو: “يؤكد الاتحاد الأوروبي من جديد دعوته للعدالة والمحاسبة على أخطر الجرائم المرتكبة في سوريا”.
ويضيف بوينو لموقع “الحرة”: لا يزال الاتحاد الأوروبي في طليعة جهود المساءلة في سوريا وقد دعم وسيواصل دعم الجهود المبذولة لجمع الأدلة، بهدف اتخاذ إجراءات قانونية في المستقبل”.
وبما في ذلك من خلال الآلية الدولية المحايدة والمستقلة ولجنة التحقيق الدولية المستقلة، اللتين يلفت تقريرهما الأخير الانتباه إلى استمرار انتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان الأساسية والقانون الإنساني في جميع أنحاء البلاد.
ووفق الناطق باسم الاتحاد الأوربي، فإن الأخير “يمول أيضا اللجنة المستقلة المعنية بالمفقودين والإجراءات القانونية في جميع أنحاء العالم، ويدعو إلى إحالة الوضع في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية”.
الحرة