قبل 14 عاما لم يدّخر المهندس السوري خالد فرصة تمكّنه من الحصول على وظيفة حكومية يخرج منها براتب شهري ثابت. “دفع هنا وهناك” وأدخل على الخط الكثير من “الواسطات” حسب تعبيره لتحقيق ذلك، ورغم أنه حظي بما أراد حينها، إلا أنه يسعى في الوقت الحالي لاتباع ذات الخطوات لكن لتحقيق “هدفٍ معاكس”. ويقول لموقع “الحرة”: “منذ أكثر من شهرين أبحث عن واسطة.. لكن للاستقالة!”.
قبل 2011، كانت الوظيفة الحكومية حلما لمعظم السوريين بما تقدمه من راتب ثابت، لكنها تحولت اليوم إلى كابوس مع انهيار الليرة، وصعوبة الخروج منها إلا بموافقات أمنية.
في عام 2009 كان راتب خالد الشهري يساوي بالليرة السورية 45 ألفا (850 دولار حسب سعر الصرف في ذلك الوقت). أما اليوم فيتقاضى 140 ألف ليرة سورية مع الحوافز والبدلات (أي 28 دولارا وفق سعر الصرف الموازي)، ويضيف: “كان نعمة وأصبح نقمة. لم يعد يكفي لشراء ربطات الخبز، وإيجار الطريق من المنزل إلى العمل. الجلوس في المنزل أرحم لي”.
ولا تعتبر هذه الحالة السورية “استثناءً”، بل تنسحب على المئات بل ربما الآلاف فيما يشبه هروبا جماعيا من الموظفين في الدوائر الرسمية التابعة لحكومة النظام السوري، فالغالبية العظمى باتوا يفكّرون في “الاستقالة” ومنهم من اتخذ القرار، حسب ما يشير إليه من تحدث إليهم موقع “الحرة” ووسائل الإعلام شبه الرسمية التي حذّرت من هذه الظاهرة، قبل أيام.
وأفردت صحيفة “الوطن” شبه الرسمية صفحتين في عددها الصادر، يوم الأربعاء، للحديث عن ظاهرة “الاستقالات الجماعية” في سوريا، وأوضحت أنها تشمل معظم القطاعات، في كل من اللاذقية والقنيطرة والسويداء والعاصمة دمشق، بينما تهدد القطاع الصحي بالخصوص، نظرا لـ”نزف الأطباء والممرضين”.
وقالت الصحيفة إن 300 استقالة شهدتها القنيطرة منذ بداية العام الحالي، و400 في السويداء، ومثلها في اللاذقية، مضيفة نقلا عن مسؤولين في اتحادات العمال والنقابات أن “مسلسل الاستقالات لم ينته والحبل على الجرار، وهذا سيؤدي في نهاية المطاف إلى إفراغ المؤسسات من كوادرها العمالية”.
“ما تحتاجه العائلة في الشهر يتطلبه 4 أضعاف الراتب الشهري”، وتأتي الاستقالات بشكل أساسي “بغرض البحث عن فرصة عمل توازي ما تحتاجه المصاريف اليومية والشهرية للعائلة”.
ويبلغ وسطي راتب الموظف الحكومي في القطاع العام بسوريا 100 ألف ليرة سورية، بينما أجرة اليوم الواحد في قطاف الفواكه 25 ألف ليرة لليوم الواحد، وتضيف الصحيفة: “أجور النقل تستهلك أكثر من ثلثي الراتب. في اليوم الواحد يحتاج الموظف إلى 3 لـ4 آلاف ليرة سورية إيجار مواصلات. دوام عشرين يوما يحتاج لـ80 ألف ليرة للمواصلات فقط”.
“شبه جوفاء”
بينما لم يحظ “خالد” الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه كاملا بـ”الاستقالة المنشودة” حتى الآن وينتظر “الموافقة الأمنية”، وصل المعلّم السوري في إحدى مدارس ريف العاصمة دمشق، عبد الحميد إلى بيروت قبل أسبوعين، عابرا إلى البلاد بصورة غير شرعية، لأسباب تتعلق برفض طلب استقالته، وعدم قدرته على استخراج جواز سفر، كون الأمر يحتاج لموافقة أمنية، لأنه “على رأس عمله”.
يحاول المعلّم السوري العبور إلى أوروبا، فيما يبحث عن “قارب تهريب آمن”، رغم المخاطر التي تحيط بكل هذه الرحلة.
ويقول لموقع “الحرة” إنه وصل في سوريا منذ ثلاثة أعوام لمرحلة “لم يعد راتبي الشهري يكفيني لدفع إيجار المواصلات من منزلي باتجاه المدرسة التي أدرّس فيها. ومثلي الكثيرين”.
وتحدث عبد الحميد كيف أن بعض العائلات باتت تدفع رواتب شهرية من جيوبها الخاصة لبعض المعلمين، كي يكونوا قادرين على تحقيق موازنة في “معادلة الراتب والطريق”، ولكي يستمروا في عملية تعليم أبنائهم.
كان “عبد الحميد” يتقاضى في الشهر الواحد حوالي 95 ألف ليرة سورية، بينما يدفع للحافلة التي يستقلها بشكل يومي 55 ألف ليرة سورية، ويضيف: “40 ألف كانت تكفي لشراء الخبر. وباقي الأساسيات بالدين المؤجل. 3 أضعاف الراتب لا تغطي النفقات. يجيب أن يضرب بعشرة كي تكون المعادلة قريبة الحل قليلا”.
وتعاني سوريا منذ نحو 11 عاما، من أزمة اقتصادية ومعيشية خانقة، وارتفاعا كبيرا في معدلات التضخم والأسعار وندرة في المحروقات وانقطاعا طويلا في التيار الكهربائي يصل في بعض المناطق إلى نحو عشرين ساعة يوميا، دون وجود بدائل حقيقية.
ويرافق ارتفاع أسعار المحروقات ارتفاع في أسعار المنتجات الغذائية والمواد الأولية، التي تعتمد على المشتقات النفطية لتشغيل المولدات ونقل البضائع.
في مطلع أغسطس الماضي رفعت وزارة التجارة الداخلية في حكومة الأسد سعر البنزين المدعوم بنحو 130 في المئة، وجاء في بيان لها أن سعر البنزين المدعوم ارتفع من 1100 ليرة مقابل الليتر الواحد إلى 2500 ليرة.
وهذه المرة الثالثة التي ترفع فيها الوزارة أسعار المحروقات منذ بداية العام الحالي، وكان آخرها زيادة سعر ليتر البنزين المدعوم في شهر مايو الماضي من 750 ليرة إلى 1100 ليرة.
وقد تجاوز سعر كيلو السكر الواحد في العاصمة دمشق الـ6 آلاف ليرة، بينما باتت أجرة التاكسي بالآلاف، حسب الجهة، فضلا عن الارتفاع الهائل في بقية المواد الأساسية التي يحتاجها المواطنون بشكل يومي.
وبموازاة كل ذلك دخلت الليرة السورية منذ بداية أغسطس الماضي بعداد تدهور جديد، لتلامس في آخر محطاتها حاجز الـ5 آلاف ليرة مقابل الدولار الأمريكي الواحد.
يقول الباحث الاقتصادي، مؤيد البني إنه يمكن رؤية أثر هجرة القوى العاملة اليوم على كثير من القطاعات الاقتصادية، وربما أهمها “القطاع الصحي الذي ينقصه كوادر ومتخصصين عبر سوريا، بالإضافة للأجهزة الطبية والأدوية”.
ويضيف البني لموقع “الحرة”: “نرى أيضا نقصا كبيرا في الوظائف الإدارية داخل مؤسسات الدولة. ونظرا لشح الموارد، من الصعب تخيل استراتيجية حوافز قد تحث البعض على البقاء، خصوصا مع الأزمة الاقتصادية والتضخم وتدهور العملة المستمر وسوء الإدارة”.
“اليوم أصبح كامل الراتب الشهري للموظف بالكاد يكفي تكلفة مواصلات الموظف، وكثيرون من العاملين في مؤسسات الدولة أصلا يضطرون لرفد دخلهم بأعمال أخرى، وذلك حتى نادرا ما يكفي لتأمين الحاجات الأساسية”.
ويوضح الباحث الاقتصادي أن “أثر هذا التفريغ لمؤسسات الدولة نراه في كل الخدمات العامة”، و”بينما استطاع النظام حماية سيطرته على مؤسسات الدولة، تصبح هذه مؤسسات شبه جوفاء لا يمكنها تقدم الخدمات الموكولة لها”.
“أثر مزدوج”
وسبق أن كشف “برنامج الأغذية العالمي” أن عددا قياسيا من السوريين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، حيث يكافح 12.4 مليون شخص حاليا للحصول على وجبة أساسية.
ويمثل هذا العدد ما يقرب من 60 في المئة من سكان البلاد، وقد زاد هذا بنسبة مذهلة بلغت 4.5 ملايين شخص خلال العام الماضي وحده، بينما يوجد نحو 1.8 مليون شخص آخرين معرضين لخطر انعدام الأمن الغذائي، ما لم يتم اتخاذ إجراءات إنسانية عاجلة.
ويعتبر الصحفي السوري، مختار الإبراهيم أن “موضوع الاستقالات منطقي ومبرر، من زاوية أن الموظف لم يعد لديه القدرة على تأمين أجور المواصلات”.
ويوضح لموقع “الحرة”: “الموظف اليوم في ظل ارتفاع سعر صرف الدولار ووصوله إلى حاجز الـ 5 آلاف بات راتبه الوسطي يساوي 20 دولارا فقط”.
وتعتمد المواصلات تقريبا على سعر صرف الدولار، كون المحروقات يتم شرائها من السوق السوداء في الغالب، بينما “لا تشغّل القسائم التي تطرحها الدولة الباصات لأيام قليلة. بالتالي الأجور ترتفع كلما ارتفع الدولار في السوداء”.
ويرى الإبراهيم أن “أي عمل حر أو الجلوس في المنزل بشكل منطقي هو أربح للموظفين من الذهاب والعودة والعمل لساعات دون مقابل يذكر”، متحدثا من جانب آخر عن “مخاطر”.
وهذه المخاطر قد تنعكس على المهن الخاصة من جهة وعلى الوظائف الحكومية من جهة أخرى.
“هناك الكثير من المهن خرجت من سوريا لأن شيوخ الكار تركوا وغادروا البلاد أو جلسوا في المنازل، في ظل تراجع القدرة الشرائية وشح الموارد”.
في المقابل يشير الإبراهيم: “في سوريا كان هناك بند يتيح للمدير العام تمديد عقد الموظف المتقاعد لمدة عام حتى يتسنى له أن ينقل الخبرة الوظيفية لمن يخلفه في المنصب. اليوم عندما تتم الاستقالة بشكل مفاجئ لهذا الموظف، فنحن نتحدث عن خبرات لن تنتقل لأبناء الجيل الجديد من الموظفين”.
ويتابع: “الخبرات الوظيفية سوف تضيع، وهذا سيشكل على المنظور القريب مشاكل كبيرة، وستظهر بشكل جلي على من تبقى من السوريين في الداخل”.
وقد تؤشر كل هذه الظروف إلى أن “قوارب الموت سترتفع لأن من يستقيل من الوظيفة يفكر في اتخاذ هذا الخيار. مع انعدام الحصول على أي فرصة في الداخل وفرص السفر بشكل نظامي لا خيار أمام الموظفين إلا التفكير في ركوب القوارب، رغم كل ما نسمعه من كوارث”، وفق ذات المتحدث.
“شرطان قبل الكارثة”
في غضون لا يوجد أي ضوء في نهاية النفق المظلم اقتصاديا ومعيشيا، والذي تسير فيه سوريا منذ سنوات طويلة، ويتوقع محللون اقتصاديون أن يزداد الوضع باتجاه الأسوأ، بسبب غياب أي مؤشرات تقود إلى غير ذلك.
ويحمّل النظام مسؤولية ما آلت إليه البلاد للعقوبات الغربية المفروضة عليه، بينما تؤكد خارجيات هذه الدول أن الإجراءات المتخذة لا تشمل القطاعات التي تمس حياة المواطنين.
الاستشاري الاقتصادي، يونس الكريم يرى أن هناك سلسلة من الأسباب التي تقف وراء ازدياد حالات الاستقالة في المؤسسات الحكومية، على رأسها أن “كتلة الرواتب باتت منخفضة جدا مقارنة بالتضخم الحالي”.
ويقول لموقع “الحرة”: “الكتلة تقارب 14 إلى 20 دولار. هذا الرقم لا يغطي تكاليف المعيشة التي تحتاجها العائلة والمقدرة بـ600 دولار شهريا (3 ملايين حسب سعر السوق الموازي).
وهناك أسباب تتعلق بـ”القوانين” التي صدرت مؤخرا بخصوص التضييق على الحوالات المالية القادمة من الخارج، الأمر الذي انعكس على المواطن بالتحديد، في ظل انخفاض القدرة الشرائية لديه على نحو كبير.
علاوة على ذلك، فإن لأزمة المحروقات دور كبير في كل ما يحصل، فضلا عن “رغبة المواطنين في تأمين حياة جديدة لأنفسهم. الغالبية تبيع الممتلكات من أراض ومنازل وتسافر”.
وفيما يتعلق بطريقة التعاطي الحكومية يشير الاستشاري الاقتصادي إلى أن النظام السوري يحاول إبعاد المؤسسات عن الانهيار، أولا من خلال التشديد على عدم مغادرة البلاد، ومن ثم التضييق على عمليات التصرف في الأملاك الخاصة والعقارات.
وتحدث عن “شرطين” قبل حدوث “الكارثة”، مضيفا: “إما أن يسمح النظام السوري بعودة المنظمات الأهلية للعمل، والشروع بدعمها من قبل التجار أو السماح للحوالات المالية بالوصول دون قيود. دون هذين الشرطين سوف نشاهد كوارث في سوريا ومجاعة وانتشار الجريمة المنظمة، وأكثر من ذلك..”.
الحرة