ضمن “هنغارات موجودة على السواحل الليبية” ومراكز احتجاز أخرى يقبع مئات المهاجرين السوريين في ظروف “صعبة ومأساوية للغاية”، بعدما تبدد حلمهم بالوصول إلى البلدان الأوروبية، قاصدين طرق العبور غير الشرعية من خلال البحر، ووفق شهادات حصل عليها موقع “الحرة” يحاول الكثير من هؤلاء الخلاص من “أيدي عصابات يقال إنها خارجة عن القانون”.
تعتبر السواحل الليبية إحدى أبرز المحطات التي يقصدها السوريون، منذ سنوات، بغرض الوصول إلى الدول الأوروبية عبر “طرق التهريب”، في مقدمتها إيطاليا.
وبينما عبر قسم منهم ووصل إلى “حلمه المنشود” استقر آخرون على “مصير أسود”، في وقت يغيب أي موقف رسمي إزاء ما يحدث، والذي أكدته أيضا في السابق منظمات حقوق إنسان دولية وسورية، آخرها “المرصد السوري لحقوق الإنسان”.
“هنغارات على البحر”
وقال “المرصد”، الجمعة، إن حوالي 300 سوري يقبعون في غياهب “معتقلات في الغرب الليبي”، والتي “لا ينجو من ويلاتها سوى أولئك الذين تتولى أسرهم دفع فدية لإطلاق سراحهم، حيث بلغت قيمتها 2500 دولار أميركي لكل شخص”.
“نادر” الذي ينحدر من محافظة درعا جنوبي سوريا، هو شقيق شاب سوري يقبع أحد ضحايا مراكز الاحتجاز التي لا تنتشر فقط في الغرب الليبي بل تنسحب أيضا إلى الشرق. ومنذ أسابيع يتلقى الأخير “وعودا” بالإفراج عنه، بعدما احتجز من قبل “عصابات تهريب”، إثر فشل محاولته في البحر.
بدأت قصة الشاب عندما وصل إلى العاصمة بنغازي عن طريق الجو وبشكل رسمي، كغيره من الشبان السوريين الكثر، ويقول شقيقه لموقع “الحرة”: “بعد هذه البداية استلمته عصابة تهريب من أجل تأمين عبوره من العاصمة، مقابل دفع مبلغ مالي يقدر بـ300 دولار أميركي”.
وبعد وصوله إلى طبرق ودفع المبلغ الذي طلبته الجهة الأولى استلمته جهة أخرى، وحصّلت منه أموالا (2500 دولار) من أجل تأمين عبوره على متن قارب إلى إيطاليا، لكن وعقب محاولات فاشلة استقر الحال به عند “عصابة ثالثة”.
ويوضح أخاه الذي يقيم في ألمانيا: “عصابة التهريب الثانية التي استلمته في طبرق أخذت الأموال رغم محاولات العبور الفاشلة. لم تعيد له شيء. فيما أقدمت الثالثة على احتجازه في هنغارات تقع على السواحل. وهي مخصصة للمهاجرين”.
“هذه الهنغارات داهمتها السلطات الليبية عدة مرات، حسب ما قال لي أخي، واعتقلت مهاجرين كثر فيها، ولم يخرجوا إلا بفديات مالية. الكثير من المحتجزين أصابهم الجرب وبقوا شهر وشهرين فيها. هي غير صالحة للعيش، بل للبهائم والحيوانات”.
ويضيف أخ الضحية “المحتجز هناك، وفي حال أراد الخروج من الهنغارات، يجب أن يدفع مبالغ بآلاف الدولارات. من يدفع أكثر يحصل على الخلاص. هذا هو الحال الذي يعيش فيه أخي الآن”.
ويعيش المحتجزون في “الهنغارات الواقعة على سواحل طبرق”، حسب شقيق “نادر” ظروفا صعبة “لا يستحملها عقل”، ويقول: “يُضغط عليهم بالماء والكهرباء لكي يدفعوا. المهرب يأخذ والميليشيات والحكومة تأخذ. ‘الجميع يسحب من دمنا’، كما قال لي أخي”.
وفي يناير الماضي، قال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إن هناك أكثر من 12 ألف معتقل رسميا في 27 سجنا ومنشأة احتجاز بليبيا، بينما يحتجز آلاف أيضا بشكل غير قانوني بـ”ظروف غير إنسانية” داخل منشآت تسيطر عليها جماعات مسلحة، أو داخل منشآت “سرية”.
وأضاف غوتيريش، في تقرير نشرت “أسوشيتد برس” جزءا منه، أن البعثة السياسية للأمم المتحدة في ليبيا تواصل توثيق حالات الاعتقال التعسفي، والتعذيب، والعنف الجنسي، وغيرها من انتهاكات القانون الدولي في المنشآت التي تديرها الحكومة وجماعات أخرى.
وذكر أن آلاف المعتقلين الذين لا يظهرون في الإحصاءات الرسمية التي قدمتها السلطات الليبية، والتي تظهر أكثر من 12 ألف معتقل، غير قادرين على الطعن بالأسس القانونية لاعتقالهم، بسبب استمرار احتجازهم.
وأوضح في تقريره الذي تم إرساله أيضا إلى مجلس الأمن “ما زلت أشعر بقلق بالغ إزاء الانتهاكات المستمرة لحقوق المهاجرين واللاجئين وطالبي اللجوء في ليبيا”.
“نجاة بقدرة قادر”
في بداية العام الحالي كانت “مديرية التجنيد العامة” التابعة للنظام السوري قد أصدرت قرارا استهدفت به شبان الجنوب السوري، وقضى حينها بمنح المتخلفين عن الخدمة الإلزامية والاحتياطية “تأجيل سحب” لمدة عام كامل، كما أتاح لهم فرصة الحصول على “موافقات السفر” خارج البلاد.
كان ذلك القرار بمثابة “طاقة الفرج” للمئات من الشبان في المنطقة الجنوبية، والذين اتجهوا على الفور لاستصدار “موافقات السفر”، ومن ثم بدأوا البحث عن وجهة لهم خارج البلاد، لتكون ليبيا الخيار الوحيد، لعدة اعتبارات، كونها محطة بارزة للوصول إلى أوروبا.
ووفق الشهادات التي حصل عليها موقع “الحرة” لأشقاء ضحايا “الاحتجاز في ليبيا” فإن غالبيتهم ينحدرون من محافظة درعا الجنوبية، فضلا عن آخرين من مدن سورية مختلفة.
وبينما يترقب”نادر” في الوقت الحالي “أي خبر سار” عن أخيه المحتجز في “الهنغارات بطبرق”، نجا الشاب “أحمد” الذي فضّل عدم ذكر اسمه كاملا “بقدرة قادر من سجن غوط الشعال” في طرابلس.
وقبل وصوله إلى إيطاليا عبر البحر حيث يقيم الآن في بريطانيا، مرّ الشاب بـ”تجربة لن ينساها” في السجن المذكور، والذي مكث فيه 30 يوما، إذ خرج بعد دفع مبلغ مالي ووصل في نهاية المطاف وبعد سلسلة من “البازارات” إلى حد 1750 دولارا أمريكيا.
وكان “أحمد” قد وصل إلى طرابلس، في يونيو 2021، قادما عبر طرق التهريب من بنغازي، وفي أثناء محاولته العبور بطريقة غير شرعية إلى سواحل إيطاليا ألقى خفر السواحل الليبي القبض عليه مع مجموعة من المهاجرين.
بعد ذلك، تم تحويله إلى سجن “غوط الشعال”، لتبدأ هنا قصة “السمسرة” من أجل الإفراج عنه، حسب تعبيره، موضحا أنه اضطر لدفع 1750 دولار لأحد “سماسرة السجن”، بعد 30 يوما من احتجازه.
“في السجن كانت هناك وجبة طعام واحدة عبارة عن المعكرونة. كان إلى جانبي 400 شخص، غالبيتهم سوريون وأفارقة ومن دول عربية أيضا. بعضهم تعرض للضرب، ورأيت آخرا تخرج منه الدماء”.
ويضيف الشاب “المبلغ الذي اشترطه السمسار (كان ضابطا) مقابل الإفراج عني دفعته عائلتي بعد تواصلها مع الأخير. كانت عملية الإفراج عني بمثابة صفقة تبادل للمال ومن ثم إطلاق سراحي”.
ونادرا ما تعلّق السلطات الليبية على التقارير المتعلقة بالظروف المأساوية وممارسات الابتزاز التي يتعرض لها المهاجرون على أراضيها.
بدورها، كانت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين قد أصدرت تقريرا، في 16 من يونيو الماضي، قالت فيه: “غالبا ما ينتهي الأمر بالمهاجرين واللاجئين الذين يتم إنزالهم في ليبيا في ظروف مروعة، حيث قد يتعرضون لسوء المعاملة والابتزاز”.
وتابعت المفوضية: “ويختفي آخرون ولا يُعرف مصيرهم، مما يثير مخاوف من أن البعض ربما قد وقع فريسة لشبكات الاتجار بالبشر”.
ودعت المنظمة الدولية للهجرة ومفوضية اللاجئين إلى “وضع حد للاحتجاز التعسفي في ليبيا، وذلك من خلال إنشاء عملية مراجعة قضائية، والدعوة لوجود بدائل للاحتجاز تبدأ بالإفراج الفوري عن الأشخاص الأكثر ضعفا”.
“الكل شريك”
ويؤكد “مؤسس المرصد الليبي لحقوق الإنسان”، الحقوقي ناصر الهواري، صحة التقارير والشهادات الخاصة بالمهاجرين، الذين تعرضوا لممارسات ابتزاز وانتهاك، في مراكز الاحتجاز و”الهنغارات” الواقعة على البحر.
يقول الهواري لموقع “الحرة”: “التقارير صحيحة والمهاجرون غير الشرعيين أو حتى المقيمين من الجنسيات الأخرى يلاقون معاملة سيئة خاصة في المراكز، ومن جانب عصابات التهريب”.
“يتم تخزين المهاجرين في بعض المخازن والهنغارات لفترة ما حتى يتم ترتيب سفرهم إلى البحر. تتم إهانتهم وتعذيبهم والبعض يتم تسفيره وأخذ أمواله، فيما يعاد قسم منهم إلى مراكز الهجرة غير الشرعية”.
ويضيف الحقوقي الليبي “هناك عمليات ابتزاز كبيرة، والبعض منهم يدفع عشرة آلاف و15 ألف دينار. التقيت حالات لمهاجرين مصريين دفعوا هذه المبالغ، لقاء الإفراج عنهم من مراكز الهجرة”.
وشاركت في هذه الانتهاكات ثلاث جهات: “عصابات التهريب”، “القائمين على مراكز الاحتجاز”، و”السلطة أيضا”، حسب الهواري.
ويوضح: “في مراكز الهجرة يوجد وسطاء عاملون فيها عملهم التواصل مع ذوي المحتجزين من أجل الحصول على الأموال. وقفت على حالات من بنغلادش ومصر وسوريا. جميعهم دفعوا الأموال”.
تحدث الهواري عن “إهانة لكل الجنسيات، وأن هناك دولة شريكة وعصابات تهريب شريكة، وقائمين على مراكز الاحتجاز. وهم شركاء أيضا”.
وقال إن “الدور الرسمي مشارك، لأن الدولة يجب أن تحمي المواطنين والوافدين”، مضيفا “هناك انقسام سياسي وتعدد ولاءات، وسط غياب الملاحقة قانونية ضد انتهاكات حقوق الإنسان. في ظل هذه الفوضى الكل شريك، بينما تغيب المحاسبة”.
“المايا 55”
لا تعتبر قضية المهاجرين الذين يتعرضون لانتهاكات وعمليات ابتزاز في ليبيا مستجدة، بل تعود إلى أوائل العام 2021.
ومنذ تلك الفترة لم تطرأ أي بادرة أمل بخصوصهم، فيما ناشد “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، قبل أيام، بالتدخل العاجل لإخراج السوريين “من هذا الجحيم ومساعدتهم للخلاص من هذه المحنة القاسية”.
ودعا المرصد إلى إيصال صوتهم إلى المجتمع الدولي لإرسال وفود تقف على حقيقة الأوضاع، مشددا على أن الأمر لا يحتمل الانتظار”.
كما دعا السلطات بالغرب الليبي إلى الإفراج عن الموقوفين ومراعاة الحالة السورية التي تشبه الواقع الليبي “في تقاسم لوجع شعبين ذاقا الويل والجوع والخصاصة وويلات التهجير والتعذيب”.
وفي أغسطس من عام 2021 كان “تجمع أحرار حوران”، وهو شبكة محلية تختص بأخبار الجنوب السوري قد تحدث عن وفاة الشاب “محمد يوسف بركات” من أبناء مدينة نوى كبرى مدن محافظة درعا.
وقال التجمع المحلي، حينها، إن بركات “تعرض للتعذيب في سجن الزاوية، بعد نحو 15 يوما من إلقاء القبض عليه من قبل خفر السواحل الليبي، في أثناء محاولته الوصول إلى إيطاليا”، وهو ما أكده أقرباء الشاب عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ووفق الشهادات تتوزع الانتهاكات بحق المهاجرين على عدة سجون ومراكز احتجاز في ليبيا. ولا تقتصر على أحدها دون الآخر، حسب ما يشير إليه الشاب “إبراهيم” الذي نجا أيضا “بقدرة قادر” من سجن “المايا 55”.
وكان خفر السواحل الليبي قد ألقى القبض على “إبراهيم”، قبل أسابيع، في أثناء محاولته العبور إلى أوروبا عبر البحر، مع مجموعة من المهاجرين السوريين والأفارقة والعرب، ومن ثم حولهم إلى “سجن المايا 55” بطرابلس.
ويقول الشاب، الذي طلب عدم ذكر اسمه لاعتبارات تتعلق بسلامته، لموقع “الحرة”: “لا يوجد عدد واضح للسوريين في مراكز الاحتجاز الليبية. المهاجر يتم اعتقاله من البحر ويدخل إليها دون أي قيود أو ذاتيات”.
“بعد عملية الاحتجاز ووصول المهاجر إلى السجن يبدأ عمل المندوبين لتحصيل الأموال من عائلته. في (سجن المايا 55) كنت مع شبان من درعا وحمص وإدلب وحلب”.
ويضيف “خرجت مع قسم منهم بعد دفع 3000 دولار عن كل واحد. نحن نجونا لكن هناك الكثير لا تعرف عنهم عائلاتهم أي شيء، بسبب التواصل المقطوع.. السوري يعتبر شوال مصاري (كيس) يمشي على الأرض. هكذا نظروا إلينا”.
وأشار إلى ظروف الاعتقال في “المايا 55″، بقوله: “تقضي حاجتك في نفس المكان الذي تنام فيه. هذه الممارسة من أجل كسر النفسية، ودفع المحتجزين على دفع الأرقام التي تطلب منهم لإطلاق السراح”.
الحرة