لم يكن مفاجئاً أن ينتهي اجتماع “أستانة 7” السوري من دون إحراز تقدم في ملف المعتقلين، ليس لأن هذا الملف أكثر تعقيداً من الملفات الأخرى السياسية والعسكرية، وإنما لأنه ملفٌّ لا يلقى اهتماماً دولياً حقيقياً في هذه المرحلة، وبالتالي لن يكون النظام في وارد التخلي عن ملف سيكون ورقة تفاوضية مهمة في مرحلة الاستحقاق السياسي. ويبدو أن الروس أدركوا أن النظام السوري سيتلاعب في هذا الملف، ويحاول تمييعه، خصوصاً أنه غامض وفضفاض من جهة معرفة أعداد المعتقلين وهوياتهم والمفقودين، على عكس قضية وقف إطلاق النار، حيث الجغرافيا واضحة، وفرقاء الصراع معروفون، وحدود التماس محدّدة إلى حد كبير.
من هنا، حاولت موسكو في ختام اجتماع “أستانة 7” الهروب من هذا الفشل بالتعويض عنه بإبراز “مؤتمر الحوار السوري” المنوي عقده في مدينة سوتشي الروسية، وإبراز مسألة الدستور التي تعتبر، من وجهة نظر روسيا، مدخلاً رئيساً لفتح باب الحل في سورية. وبدا واضحاً أن السلوك الروسي في أستانة اعتمد مبدأ الحياد في هذه المسألة، على خلاف الجولات الست السابقة، حيث كانت موسكو تمارس ضغوطاً كبيرة على الطرفين (النظام والمعارضة) لتقديم تنازلاتٍ، والقبول بتخفيف حدة القتال، للوصول إلى نقطة الصفر العسكري. وقد كشف اجتماع أستانة بوضوح حقيقة الموقف الروسي، ومدى تلاعبه بالمعارضة، حيث لم يخرج الاجتماع بأي اتفاق، ولو مبدئي، حيال ملف المعتقلين، ما يدفع إلى القول إن موسكو فشلت فشلاً ذريعاً في أول اختبار حقيقي لها.
والملفت للانتباه أن الخطاب السياسي الروسي اعتمد مصطلح الأسرى، بدلاً من مصطلح المعتقلين، في دلالة واضحة على تبني موسكو رواية دمشق بالكامل، وعلى أن مسألة المسجونين لا تخرج عن مسألة أسرى حرب. ويخشى هنا أن تقع فصائل المعارضة المسلحة في فخ القبول بإطلاق الأسرى التابعين لها وترك الآخرين، خصوصاً معتقلي الرأي. وبالتالي اختزال هذه القضية التي تحمل أبعاداً إنسانية وسياسية في المقام الأول إلى مسألة محض عسكرية بين طرفين متقاتلين.
تقع المسؤولية بالدرجة الأولى على المعارضة السورية التي قبلت فصل ملف المعتقلين عن ملف خفض التوتر، وكان عليها ربطهما معاً، والإصرار على ذلك، بحيث يتم الإفراج عن دفعات من المعتقلين مع كل تقدّم ينجز على الأرض، خصوصاً أن القرارات الدولية المعنية بالأزمة السورية تقدم سنداً قانونياً لهذا الربط، فقد دعا البند التاسع من قرار مجلس الأمن 2268 الصادر في فبراير/ شباط 2016، “جميع الدول إلى أن تستخدم نفوذها لدى الحكومة السورية والمعارضة السورية من أجل تعزيز عملية السلام وتدابير بناء الثقة، بما في ذلك الإفراج المبكر عن المحتجزين تعسفاً، ولا سيما النساء والأطفال”. كما دعا البند الثاني عشر من القرار 2254 “جميع أطراف الأزمة السورية، وفي مقدمتهم النظام، إلى الإفراج عن أي محتجزين تعسفياً، لا سيما النساء والأطفال”، ودعا القرار أيضاً الفريق الدولي لدعم سورية إلى استخدام نفوذه على الفور تحقيقاً لهذه الغايات.
سيمنح فصل الملفين عن بعضهما النظام فرصة كبيرة للتلاعب بهذه القضية على المستويين السياسي والإنساني، وبالتالي سيترك هذا الملف ورقة للتفاوض مع الغرب، وليس مع المعارضة السورية. وهذا لا يعني أنه سيضرب الجهود الروسية عرض الحائط، فهو لا يستطيع ذلك، لكنه سيقدّم تنازلاتٍ خفيفة في هذا المجال، ويفرج عن مئات وربما آلاف، لكن من هم الذين سيفرج عنهم؟ هناك مسجونون كثيرون ممن يجب أن يفرج عنهم، لكن النظام يؤخر ذلك، كي يستخدمهم ورقة تفاوضية، مثل الذين اتهمتهم محكمة الإرهاب بممارسة الإرهاب، وتتم محاكمتهم في سجن دمشق المركزي (عدرا)، ويطلق عليهم اسم الموقوفين، ثم قد يلجأ النظام إلى إدخال مرتكبي الجنح والجرائم ضمن صفقة المعتقلين. فضلاً عن ذلك كله، عمد النظام منذ نحو ثلاث سنوات إلى استخدام ملف المعتقلين في تنفيذ المصالحات الداخلية، بحيث يكون الإفراج عن معتقلين جزءاً من صفقة المصالحة.
وللمسألة بعد آخر، فهذا الملف يعتبر أكثر الملفات إدانة للنظام، ومن خلال المعتقلين، يمكن توثيق انتهاكات حقوق الإنسان، وهذا ما يفسر مطالب وفد النظام، قبيل اجتماع أستانة بضرورة الاتفاق على عدم رفع أية دعاوى قانونية في المحاكم الدولية من المعتقلين الذين سُيفرج عنهم. ولذلك، لن يفرج النظام في البداية عن أعداد كبيرة من المعتقلين، وإنما سيعمد إلى استخدام سياسة الخطوة خطوة، فتكون عملية الإفراج طويلة ومعقدة.
المصدر : العربي الجديد