لا شك في أن من أهم الأسئلة في مجال علوم الخلية هو الكيفية التي تتعرّف بها الخلايا على الاتجاهات، وكيف تميز الأمام من الخلف والأعلى من الأسفل؟ وكيف تتمكن الخلية من التعرف على الفارق بين الداخل والخارج؟ وكيف يمكنها أن تموضع ذاتها هندسيا في الفراغ المحيط بها؟
يفيد ذلك كثيرا في فهم الباحثين لعمليات نمو الجسم من بويضة تم تلقيحها وصولا إلى الجسم الكامل، فالعلماء غير قادرين بعد على فهم الكيفية التي تتحرك بها الخلايا لصنع “يد” هناك و”أقدام” هنا وقلب في منطقة الصدر.
كذلك يفيد فهم تموضع الخلايا وتوجيهها لذاتها في دراسة الطريقة التي يعالج بها الجسم حالات الجروح، حيث تنتقل الخلايا لمنطقة القطع -على سبيل المثال- وتسدّها.
لكن من أهم وظائف فهمنا لهذا المجال هو معرفة الكيفية التي تفقد بها الخلايا تلك القدرة على تحديد توجهها، وبالتالي تنمو دون خطة، وهذه الحالة نعرفها جميعا باسم “السرطان”.
الرياضيات من أجل السرطان!
في دراسة جديدة نشرت فقط قبل عدة أيام، من جامعة كوبنهاغن بالدانمارك، تمكن فريق بحثي من بناء نموذج رياضي يمكنه توقع اثنتين من الآليات التي توجه بها الخلايا نفسها أثناء بنائها لهياكل معقدة تشبه تلك التي تتولد أثناء بناء الجسم للأعضاء الجديدة.
ووجد الباحثون أنه بإضفاء تغييرات طفيفة على هاتين الآليتين في النموذج المقترح، أمكن الحصول على أشكال مختلفة من الخلايا، وفتح ذلك الباب لإمكانية اختبار صواب هذا النموذج في تجارب معملية يقوم الباحثون خلالها بتخليق أعضاء صغيرة والتنبؤ بالهيكل المستقبلي الناتج من نمو الخلايا بها.
من تلك النقطة انطلق الفريق البحثي لفحص النظريات الطبية التي تحاول أن تفسر الكيفية التي تتطور بها مجموعات الخلايا معا في صورة هياكل كتلك، وتمكنوا من حصر مجموعة قليلة من النظريات التي تتفق مع هذا النموذج ويمكن اختبارها.
لكن النتيجة الأكثر لفتا للانتباه في تلك الدراسة الجديدة تتعلق بتوضيحها أن بناء الأعضاء المعقدة -كالمخ أو الرئة- بتلك الثنيات الكثيرة الموجودة في جنباتها، لا يحتاج خطة عامة دقيقة لتنفيذها، بل يمكن عبر دراسة الظروف المحيطة بالخلية المفردة، كالضغط المحيط، وسرعة النمو، وعدد الخلايا في العيّنة الأوّلية؛ التنبؤ بأشكال تلك الهياكل.
“العبرمنهجية” في خدمة العلم
حينما يحدث أن تتداخل مجموعة من النطاقات المنفصلة عن بعضها بعضا -كالرياضيات والبيولوجيا- لحل مشكلة ما، فإن النتائج تكون دائما مثيرة للانتباه، وليست هذه هي المرة الأولى التي يحاول فيها متخصصون من عوالم غير طبية حل مشكلات طبّية، فهناك كيان كامل “عبر-منهجي” يحاول فحص مشكلات بيولوجية معقدة بنظريات من عوالم الفيزياء والرياضيات.
على سبيل المثال، كان باحثون من مؤسسة “لومير ماتيري” لعلوم الفيزياء قبل عدة أسابيع بالتعاون مع مؤسسة ليون لدراسة السرطان من جامعة كلود برنارد، قد تمكنوا من فحص الآليات الميكانيكية التي تنمو بها خلايا بعض الأنواع السرطانية بغض النظر عن الآليات البيولوجية الخاصة بها.
حيث تصوّر الباحثون أن أحد العوامل المؤثرة في استجابة الخلايا السرطانية للعلاج هو الميكانيكا التي تتحرك بها الخلايا بالنسبة لبعضها بعضا في أثناء وجود الدواء.
وفي هذه الدراسة الجديدة استخدم الباحثون أشعة الليزر في محاولة لالتقاط صور لعضو مخلّق من خلايا سرطانية بقطر أقل من مليمتر واحد، وهو ما مكنهم بوضوح من فهم الميكانيكا الخاصة بهذه الخلايا السرطانية وطريقة احتكاكها ببعضها بعضا وتطور صلابتها أثناء العلاج، مما يمكن بدوره أن يساعد مستقبلا في فهم أفضل للآلية التي يمكن بها علاج السرطان.
المصدر: الجزيرة النت