بدأت الاثنين الماضي، رسمياً، المفاوضات بين وفدي المعارضة والنظام السوريين، بتأكيد «هيئة المفاوضات العليا» المعارضة على رفض التفاوض قبل تطبيق بندين لقرار مجلس الأمن رقم 2254 يتعلقان بوقف حصار المدن والتجويع ومواصلة اعتقال وتعذيب المدنيين.
النظام، من جهته، وعلى لسان رئيس وفده المفاوض، بشار الجعفري أكد أنه موجود «لإجراء محادثات غير مباشرة على شكل حوار سوري سوري دون شروط مسبقة ودون تدخل خارجي» متبعاً ذلك بالقول: «إحفظوها لأنها فاتحة بالقرآن تبعنا»، وحين علّق أحد الصحافيين الموجودين بالقول «صدق الله العظيم»، ما كان من الجعفري إلا تكرار العبارة.
قد يتعامل من قرأ عبارة الجعفري على أنها علامة الدبلوماسي السوري الفارقة في تمييز نفسه عن أقرانه من السياسيين، فهو، بناء على السيرة الذاتية (CV) التي نشرها، حاصل على شهادتي دكتوراه في العلوم السياسية، وثالثة في تاريخ الحضارة الإسلامية، غير أن بهلوانيّاته اللفظية التي يحاول فيها إعلاء شأنه على أقرانه لا تفعل غير التشكيك في درجاته العلمية تلك وطرق الجعفري في الحصول عليها، ما يذكر، أيضاً، بمئات العسكريين ورجال الأمن والسياسيين العرب، الذين درجت بينهم «موضة» الحصول على الشهادات العلمية العالية، ومنهم عمّ الرئيس السوري رفعت الأسد، صاحب الدكتوراه في العلوم السياسية من «الأكاديمية السوفييتية للعلوم»، والذي كان أسس في الثمانينات من القرن الماضي جمعية لأصحاب الشهادات العليا، فرضت سطوتها الأمنية على الوسط الأكاديمي السوري آنذاك.
سبق للجعفري أن تلا قصيدة لنزار قباني على مسامع مندوبي مجلس الأمن، استخدم فيها اسم وموهبة الشاعر الكبير (الذي كان مكروهاً، حيّاً وميّتاً، من النظام السوري)، لهجاء العرب (باعتبار أن العرب هم أهل الخليج!)، واستخدم، في مناسبة لاحقة، قصيدة شديدة الركاكة ومخلخلة القوافي والأوزان، مرّت فيها كلمات ومعان قبيحة وفجة فتكشّف الرجل عن ضحالة وسطحيّة أظهرتا الأمنيّ المختفي تحت قناع الدبلوماسي.
كلام الجعفري عن محادثات غير مباشرة «من دون تدخّل خارجي» بعد السيطرة الروسية على القرار العسكري والسياسي لدمشق (ووجود القوّات الإيرانية والميليشيات اللبنانية والعراقية المحاربة على الأرض السورية)، لن يجد أحداً يشتريه بالتأكيد، أما تشبيه أقواله بالقرآن فهو تصعيد لفظيّ جديد المقصود منه، بداية، الإثارة ولفت الأنظار، وهي تتّسق مع مفهومه الذي يخرج فيه نفسه، وبالتالي بلاده، من العروبة، مضيفاً عليها، هذه المرّة، الإسلام.
ولا يفعل الجعفري بذلك غير السباحة في مجرى سمّاه العرب قديما بالنزعة «الشعوبية»، وتندرج فيه نزعات حديثة مثل «الفينيقية» و«الفرعونية»، وكلّها تعتبر سكان الجزيرة العربية الحاليين هم العرب، والمسلمون، بالتعريف، فتحط من قدرهم وقدر الإسلام، ظانة بذلك أنها ترفع شأن اللبنانيين أو المصريين أو السوريين وأنها تحطّ من شأن «البدو» «العرب»، وتتمظهر هذه النزعات بأشكال عديدة تتلاعب بالحقائق، فتصبح غزة الفلسطينية هي العدوّ وتصبح إسرائيل هي الشريكة الحضارية، وتجد هذه التناقضات هوى لدى نخب سياسية وإعلامية، تناصر إيران أو روسيا أو حتى إسرائيل، وتعادي السعودية وقطر (والإخوان المسلمين!)، بناء على الاعتبارات الآنفة الذكر، في تناقض كبير مع ثوابت الهوية والثقافة والحضارة، وفي فهم سطحي للعالم، لا يبقى منه إلا كره الذات واستقواء الغريب على القريب.
يضاف إلى كل ذلك أن جملة الجعفري المسيئة، التي تقصد منها تملّق رؤسائه في سوريا وغيرها، ليست إلا شكلاً مكمّلاً لإدارة» المفاوضات» بالإبادة والتجويع حتى الموت والقصف بالغازات السامة والبراميل المتفجرة، ولكنّها تتقصد الإشارة إلى أن حرب الإبادة هي أيضاً لثقافة وهويّة وحضارة المعارضين لنظام الأسد، وليس لعمرانهم واجتماعهم وحياتهم على الأرض فحسب.
المصدر : القدس العربي