«يترتب عليك ألا تفتخر بإنجازاتك وبكل ما تتميز به وألا تفكر أنك أفضل أو أذكى من الآخرين وألا تحتفل بنجاحاتك، وعليك أن تفكر دوماً بمن هم أدنى منك: بالفاشلين والمعوقين والكسالى والبشعين والمدمنين والساقطين، وتعتبرهم، إن لم يكن أفضل منك، فعلى الأقل مثلك. تقاسم ما بحوزتك مع الآخرين ولا تفرح إلا حين يفرح الآخرون».
هذه، باختصار، هي فكرة رواية «لاجئ يخرج عن الطريق» للكاتب الدنماركي، من أصل نروجي، أكسل ساندموس، التي أصدرها عام ١٩٣٣. تجري أحداثها في قرية خيالية اسمها جانيتي، يحاول سكانها أن يعيشوا ويفكروا ويتصرفوا، بالشكل نفسه.
كثيرون اعتبروا أن الرواية أثرت في الإسكندينافيين ورسخت لديهم فكرة المساواتية والتعاضد الإجتماعي، حتى بات يطلق على سلوكهم، من حيث التواضع وتفضيل الآخر على الذات، «قانون جانيتي».
الحال أن ساندموس لم يكن يسن قانوناً لما ينبغي أن يكون عليه الاسكندينافيون، بل يصف الشخصية الاسكندينافية، أي ما يراه، لا ما ينبغي أن يكون.
هناك تمرد غير مباشر على فكرة الرواية والذهنية التي تصفها، والتي يرى نروجيون كثيرون أنها تقتل روح الإبداع وتشجع على الكسل، فضلاً عن كراهية الذات وتشجيع الآخرين على التسلل إلى حيث يتاح لهم العيش كما يحلو لهم.
هذه الذهنية حولت بلدهم إلى ما يشبه دار العجزة. مأوى للكسالى والطفيليين والمتزلفين والانتهازيين الذين يفضلون العيش على مساعدات الدولة بدل العمل والكد وتطوير أنفسهم. اليسار النروجي يشجع هذه الثقافة: يجب أن نعيش معاً أو نهلك معاً. لا للتفرد والتميز. على طريقة الاتحاد السوفياتي: سواسية في الفقر والحرمان والبؤس. ولكن هناك، على الطرف الآخر، من يدفع في الاتجاه المعاكس ويحث على ترسيخ ثقافة الاعتزاز بالذات، الفردية والوطنية، بدل العدمية. يجب تعزيز أفكار التفوق والإبداع والاعتماد على النفس وتمجيد الذكاء والتفوق، لا الكسل والدونية.
تصف الرواية ذهنية فلاحية قروية لمجتمع لم يصل إلى المرحلة المدينية بتعقيداتها وطموحاتها ومتطلباتها والتنافس فيها. الروح القروية تكره التعقيد والاختلافات وتدمن البساطة والكسل. تنفر من الخروج من إطار القرية. الفرد هنا شخص قطيعي لا صوت له، لا وجه، لا أفكار، لا طموح، الجماعة كل شيء.
من ذهنية كهذه نبعت فكرة المجتمع المتساوي في الثقافات والقيم، واستغل اللاجئون الآسيويون والأفارقة هذا الأمر بعدما اعتبروه سذاجة.
ونصل إلى بيت القصيد: ظاهرة اللجوء التي لا سابق لها. ليس فقط من البلدان التي تشهد الحروب، بل من كل بلدان آسيا وأفريقيا. عائلات بأكملها تبيع ممتلكاتها وترحل، كلها أو بعضها على أن يلتحق الباقون. عائلات ترسل أبناءها الصغار، الذين لا تتجاوز أعمارهم، في بعض الحالات، عشر سنوات، للحصول على الإقامة (لأن القوانين الأوروبية تعطي أولوية شديدة للأطفال) ومن ثم يلتحق الآخرون كجمع للشمل.
يتم استغلال القوانين الأوروبية، التي تتسم بروح إنسانية عميقة وبقدر كبير من التسامح يبلغ درجة السذاجة إن لم نقل الغباء. ليس اللاجئون وحدهم من يستغل هذه القوانين، بل الحكومات التي يأتون من دولها، أو يعبرون منها. وهكذا نشأت آلة جبارة، ذات سلطان عظيم هي «مهنة اللجوء». تكون لوبي أخطبوطي لتسيير عمليات اللجوء، يمتد من بلدان الانطلاق إلى بلدان اللجوء.
هؤلاء ليسوا لاجئين سياسيين ومعارضين ولم تكن لهم نشاطات سياسية، ولا تشكل عودتهم إلى بلادهم خطورة على حياتهم، بل إنهم يعمدون فور استلامهم الإقامة وجواز السفر الأوروبي إلى زيارة بلدانهم كسيّاح.
في كل يوم يتلقى المواطنون الأوروبيون الذين لا يشاطرون حكوماتهم الرأي في ما يتعلق باللاجئين، الإهانات والتمييز، على يد حكوماتهم، وعلى يد المنظمات الكثيرة، التي تكاثرت كالفطر، وكلها تتلقى التمويل من الدولة و «تدافع» عن اللاجئين. بات اللجوء أشبه بتجارة المخدرات، له مافياته وطرق تهريبه وتوزيعه وطبعاً ضحاياه.
قام نظام اللجوء في الأساس، لتوفير ملاذ آمن للأفراد الذين يتعرضون للملاحقة والأذى في بلدانهم الأصلية بسبب قناعاتهم. غير أن هذا النظام يتعرض للاستغلال، في وضح النهار. القادمون ليسوا أفراداً معزولين، ملاحقين، بل شعوب بأكملها، من دون أن تكون بالضرورة مهددة في أفكارها أو عقيدتها أو قوميتها أو دينها، وتطلب اللجوء في بلدان تتصف برفاهية العيش وتقديم الدعم المالي والمساعدات العينية والإجتماعية. تمضي قوافل المهاجرين ولا تتوقف عند بلدان وقارات لتصل إلى البلد المنشود: بلد الرفاه.
وما إن يستقر بهم المطاف وتتأمن لهم كل صنوف الرخاء والأمان حتى تبدأ شهوتهم بفرض سلطانهم وتعميم عاداتهم وتكريس أهوائهم على أهل البلد. كل يوم يمضي اللاجئون، المسلمون على وجه الخصوص، خطوة أبعد في استغلال القوانين لفرض أجنداتهم، بدءاً من الحجاب والنقاب والبرقع والعباءة والمحاكم الشرعية وصولاً إلى إهانة أهل البلد وتكفيرهم وإهانة مشاعرهم لأنهم «نجسون» يحبون الكلاب ويأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر، الخ…
وفيما تمارس الحكومة، بكل مؤسساتها، أقصى الحذر لئلا تمس مشاعر المهاجرين واللاجئين، لا سيما المسلمين، فهذه المؤسسات، ومعها الإسلاميون ومنظماتهم وجمعياتهم، لا يظهرون أدنى قدر من الاحترام والحذر إزاء أبناء البلد.
يتم التصرف مع اللاجئين، خصوصاً المسلمين، كما لو كانوا كائنات هشة، مفرطة الحساسية، تتأذى من نسمة الهواء فيما أبناء البلد آلات صماء، حجارة، لا مشاعر لديها.
كأن ثمة عملية ترويض مقصودة للأوروبيين لإجبارهم على استعادة ما كانوا دفعوا تضحيات جساماً للتخلص منه: الإرث الدموي النابع من الكراهية والثأر والعنف والقتل. يومياً يجد الفرد الأوروبي نفسه مجبراً أن يرى بأم عينه مشاهد رهيبة على حالات عنف فظيع: الطعن والذبح والتشويه والحرق بداعي الحفاظ على الشرف أو الأخلاق: رجل يحرق زوجته. رجل يجر زوجته بعدما وثّق يديها بمؤخرة السيارة. رجل يرمي أولاده من النافذة.
هذا من دون الإشارة إلى حالات الاعتداء والاغتصاب والسرقة والفوضى في المدارس والشوارع والمكاتب ومحطات القطارات.
بداعي الغيرية والاهتمام باللاجئين يُهمّش أهل البلد وتُهمل حاجاتهم وتقل الخدمات العامة، وكذلك قيم البلاد وتقاليدها، بل تُنبذ في أحيان كثيرة (الاحتفالات الدينية، الرموز الدينية كالصليب وشجرة عيد الميلاد الخ…).
خلال العقود الثلاثة الماضية خيضت «حملة صليبية» لا سابق لها ترويجاً للتعددية الثقافية والنسبية الحضارية في المجتمعات الأوروبية. نهضت هذه الرغبة من قناعة ساذجة بأن لا فرق بين الثقافات وأن الاختلاف مقيت فيما التشابه والذوبان في قالب واحد مطلوب. لم يعرف أحد لماذا ينبغي العمل على تسطيح هذا العالم، الغني، المعقد، المملوء بالتنوع والاختلاف، وتحويله صورةً واحدة، أشبه بلوحات وارهول، مفرغة من اللون.
ها هي الوقائع تشير إلى أن الحملة تمضي نحو نهاية كارثية. بدل الاندماج والتلاقح والتثاقف تنهض غيتوات منغلقة. كل غيتو يروج لنفسه ولغته ودينه وثقافته. ونشأت مناطق مقفلة في وجه الآخرين، تتجول فيها «شرطة» أخلاقية تراقب المارّين، لا سيما النساء، للتأكد من خضوعهم لـ «القوانين» في الملبس والتصرف.
هكذا يتم تحطيم البلد وإرجاعه سنين إلى الوراء ليشبه البلدان التي أتى منها اللاجئون، بدل أن يرتقي هؤلاء إلى مستوى البلد الذي دفعوا الغالي والنفيس للوصول إليه. وإذ تصدر صرخات يائسة من بعض أهل البلد، ينهض من يتهمهم بالعنصرية والفاشية والإسلاموفوبيا، ثم تمضي القافلة للاحتفال بطوبى إشتراكية فانتازية سبق للزمن أن أعطى رأيه فيها.
لقد تحولت قرية جانيتي «مستوطنة للعقاب».
المصدر : الحياة