مقالات

أنا أحمد.. ولن أكون “شارلي” !

في حوار مع ابني الكبير، بعد أن فرغت من كتابة مقالي الأسبوعي حول المقارنة بين خطابين، قبيل وبعد حادث “شارلي إيبدو”، لفت ابني النظر إلى تلك المؤسسات ووسائل الإعلام التي أطلقت شعارات “كلنا شارلي”، أو “أنا شارلي”. قالها القاصي والداني، قالتها مؤسسات إعلامية وأطفال وكبار، لم يقتصر ذلك على فرنسا أو أوروبا أو الحضارة الغربية بأسرها، بل امتد إلى بلاد العرب والمسلمين، في انتشار عجيب وغريب، تضامناً مع صحيفة “شارلي إيبدو” الساخرة، إثر الهجوم الذي تعرضت له، الأربعاء الماضي، في مقرّها في باريس. وبينما تحوّل هذا الشعار إلى “هاشتاغ”، يعاد نشره آلاف المرات، وصور سوداء تتوسطها ثلاث كلمات بيضاء، تغطي صفحات نشطاء “تويتر” و”فيسبوك”، استغرب متابعون كثيرون سرعة انتشار هذا الشعار في كل أنحاء العالم، وفي معظم اللغات.

قيمة الرمز ومسألة الهوية. لفت نظري لماذا نكون نحن “شارلي”، لا لن أكون “شارلي”… بل أنا “أحمد” ولن أكون “شارلي”، شعارات تتدافع تبدو لنا ضمن معركة الرموز التي نشبت مواكبة هذا الحدث، تحمل معان ومغازي كثيرة. “أنا أحمد”، ذلك الشرطي الذي قضى مع هؤلاء، يحرسهم على الرغم ممّا يمثله بإسلامه، يدفع عن هؤلاء أي ضرر، أو مكروه، ليمثّل معنى الإنسانية التى تحمي النفس الإنسانية، على الرغم من أنها أساءت الأدب في رسومها، لتنال من رمزية الرسول الكريم، محمد (صلّى الله عليه وسلّم). إنه أحمد الإنسان، أنا أحمد، ولن أكون شارلي، أنا من أتباع النبي محمد (صلّى الله عليه وسلّم)، الذي واحد من أسمائه أحمد، النبي الرحمة المهداة للإنسانية، بل لكل العالمين، “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”، كل العالمين.

ما هي حرية التعبير؟ “شارلي إيبدو”، صحيفة مثيرة للجدل، تمارس ذلك كله باسم حرية التعبير، غير ملتفتة لإهانتها أتباع دينٍ يرى فى ذلك إهانةً، أيّما إهانة، سياستها اختراق الخطوط الحمراء، بالتجاوز على الرموز السياسية والتطاول على الأديان، جميع الأديان، معتبرة هذا نوعاً من أنواع حرية التعبير عن الرأي. تعتمد الصحيفة، بشكل أساسي، على الكاريكاتير، فتنشر القصص المصورة والرسوم المثيرة للجدل، والتي تحمل إهانة لرمز ديني أو سياسي. تاريخها حافل بهذه الممارسات التي تحرّض على العنف، تمارس النشر المستفز تحت مسمى “حرية التعبير”. هذه ليست المرة الأولى التي تنشر فيها الصحيفة صوراً مسيئة للإسلام، وتم تقديم شكاوى ضدها، لكن المحاكم الفرنسية قامت بتبرئتها، بحجة أنها تقصد الإرهابيين وليس المسلمين. وفي عام 2013، نشرت الصحيفة كتيّباً من 64 صفحة، قالت إنه العدد الأول من سلسلة رسوم كاريكاتيرية صادمة للمسلمين تصور حياة الرسول. للصحيفة سوابق كثيرة جداً فى السخرية من الأديان كافة بلا تمييز، خصوصاً اليهودية والمسيحية والإسلام، إلا أنها ركزت على استهداف الإسلام، أخيراً، بالسخرية. إنها معركة حرية التعبير المغلوطة.

ما هو الإرهاب؟ ما يؤكده نعوم تشومسكي مجدداً بصدد هذه الحادثة، يدل كيف يكال بألف مكيال في مسألة الإرهاب؟ يقول: “هناك حاجة للتحقيق في الجذور العميقة، والاستقصاء العميق حول
“هذه ليست المرة الأولى التي تنشر فيها الصحيفة صوراً مسيئة للإسلام، وتم تقديم شكاوى ضدها، لكن المحاكم الفرنسية قامت بتبرئتها، بحجة أنها تقصد الإرهابيين وليس المسلمين” مَن يقف مع الحضارة، ومَن يقف مع الهمجية. وعلى المنوال نفسه، يمكننا فهم تعليق محامي الحقوق المدنية، فلويد أبرامز، في صحيفة نيويورك تايمز بسهولة، في دفاعه القوي عن حرية التعبير، “الهجوم على شارلي إيبدو هو الأكثر تهديداً على الصحافة في الذاكرة الحية”. وهو صحيح تماماً عن “الذاكرة الحية” التي تُصنّف الاعتداءات على الصحافة وأعمال الإرهاب للفئات المناسبة: (إرهابهم)، وهو بشع، و(إرهابنا)، وهو شريف وطاهر، ويمكن محوه بسهولة من الذاكرة الحية”.

ثم حملت مواقع التواصل الاجتماعي، عبر الرسائل النصية التي يتم فيها تداول عبارة “أنا شارلي”، “أنا أحمد”، مرفقة بالنص التالي: “أرفض الكيل بمكيالين والحقد والكراهية المؤديين إلى القتل”. لماذا لا يقوم قادة العالم بالتعبئة للتنديد بعمليات أخرى تتم في مدن عديدة، ويذهب ضحيتها مئات الأبرياء المدنيين كل يوم. إننا نستنكر مذبحة “شارلي إيبدو” في باريس. لكن، ما هو الإرهاب: أي هل ما يقع في باقي مدن العالم ليس إرهاباً يذهب ضحيته مواطنون عُزّل، أم أن الإرهاب هو الذي يقع فقط فوق التراب الأوروبي والأميركي؟ وهو ما أكده طارق رمضان: “استهداف شارلي إيبدو جريمة نكراء، لكني لن أكون شارلي إيبدو”.

مقولة ألبرت اشتفيستر صادقة تماماً في فلسفة الحضارة، متحدثاً عن حضارته الغربية “حينما يفقد الشعور بأن كل إنسان هو موضوع اهتمام عندنا، لأنه إنسان، تترنح الحضارة والأخلاق، ويصبح الوصول إلى عدم إنسانية شامل مسألة زمن..”. كانت مركزية الغرب العالمية قراراً اعتمده الغرب، في سبيل تحقيق أهدافه وتوجيه سياساته وإدارة مصالحه، والقوة وحدها وسيلته في توليده لنظام عالمي، يقوده وحده دون سواه، ووفق شروطه ومصالحه، وفي إطار سياسة تحمل “العصا لمَن عصى”، إنها قضايا تثيرها تلك المعارك الرمزية، تدافعات الهوية، والكيل بألف مكيال في مسألة الإرهاب، وحرية التعبير حينما يعبّر عنها بالقيم الأوروبية، متحدين مشاعر مَن يمثلون نُظُماً قيمية أخرى، واستهداف رموزهم ومقدساتهم، وإغفال إرهاب الدول، حينما يُمارس في حق الكثيرين، انتهاك حقوق الإنسان التأسيسية إرهاب دولة. الكيان الصهيوني الذي يشن حروبه ويحكم حصاره على غزة، أكبر دلالة في هذا المقام، من أجل ذلك كله “أنا أحمد.. ولن أكون أبداً شارلي”.

سيف عبد الفتاح – العربي الجديد – وطن اف ام 

سيف الدين عبد الفتاح
كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته “في النظرية السياسية من منظور إسلامي”، و” التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية”.

زر الذهاب إلى الأعلى