أحد تعريفات السياسة هي “قراءة التاريخ وإسقاطه على الواقع” والتاريخ هنا العلاقات السورية الأمريكية التي يحاول البعض اليوم تفسيرها على هواه، فيربط بين الحزب الديمقراطي وبين النظام السوري، ويستشهدون بزيارة الرئيسين الديمقراطيين كارتر وكلينتون إلى دمشق، أو زيارة مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية عقب وفاة الأسد الأب، وما تبع تلك الزيارة من أقاويل، وبالمقابل فإن تاريخ العلاقات مع الجمهوريين كان يغلب عليه التشدد تجاه النظام وفرض عقوبات عليه كما فعلت من قبل إدارة ريغان في ثمانينيات القرن الماضي ثم تهديدات بوش الإبن بعد مقتل الحريري والتي أدت لانسحاب النظام المخزي خلال ساعات من لبنان، وصولاً إلى ضرب ترامب النظام بعد استخدام الكيماوي في خان شيخون وتوقيع قانون قيصر.
لكن سرد الوقائع بهذا الشكل رغم حقيقتها إلا أنها تبقى سطحية شيئاً ما، فكلّنا يعلم أن الأمريكيين ينظرون للمنطقة بعيون إسرائيلية، وذلك يعني أن أولويتها هي الحفاظ على مبدأ المحيط الذي اتسمت به سياستها منذ تأسيسها، وهذا يدخل ضمن استراتيجيات أي إدارة سواء كانت ديمقراطية أم جمهورية، لذلك فإن شيئاً لايكاد يتغير بسياستها تجاه النظام رغم تعاقب الإدارات على البيت الأبيض.
إلا أن هناك تغيرات جذرية دولية تنسحب على المشهد اليوم، فالإدارة الأمريكية التي ستخلف إدارة ترامب سترث مشاكل غير مسبوقة بالسياسة الدولية التي تعرضت لمتغيرات تكاد تكون جذرية، فالتقارب الصيني الإيراني اليوم وصل لمرحلة متقدمة، فهم على بعد خطوة واحدة من توقيع أهم اتفاقية ثنائية في تاريخ العلاقات بين البلدين، والتي قيل أن إيران ستحصل بموجبها على ما يقارب 400 مليار دولار، وهو ما قد يجعل بايدن يغير من سياسة الانفتاح على إيران التي اعتمدها باراك اوباما، وأيضاً التقارب الروسي التركي الذي توج بصفقة s400 التي هزت حلف الناتو بشدة وأثرت على العلاقات الأمريكية التركية.
تلك المتغيرات ناتجة عن أسلوب القيادة من الخلف التي اتبعها أوباما وأدت إلى تراجع دور أمريكا في العالم ثم سياسة الانسحاب من الانخراط في النزاعات الدولية التي مالت إليها إدارة ترامب.
أما على الصعيد الإقليمي فإن المتغيرات الجيوسياسية كبيرة أيضاً، فموجة التطبيع مع إسرائيل التي اجتاحت عواصم عربية مفاجئة وغير مسبوقة، إلا أنها تنطوي على تحديات منها عدم استقرار الداخل الإسرائيلي الذي يموج على وقع مظاهرات منددة بسياسات نتنياهو، ولا تكاد تمر سنة بدون تغيير في الحكومة والدعوة لانتخابات، ويرى المراقبون أن نتنياهو (صديق ترامب) قد يلجأ لضرب حزب الله في لبنان قبل تسلم بايدن مفاتيح البيت الأبيض في خطوة لخلط الأوراق وقطع الطريق أمام الإدارة الجديدة لعرقلتها أطول فترة ممكنة قبل أن تنخرط في محادثات جديدة مع إيران للعودة للإتفاقية النووية التي وقعت في عهد أوباما، كما أننا لا نستطيع أن نجزم بأن نتنياهو سيبقى في منصبه طيلة الأربع سنوات القادمة نظراً للأوضاع الداخلية في إسرائيل.
كل ذلك قد لا يؤثر تاثيراً مباشراً على الملف السوري، إلا أن ما يمكن أن يؤثر حقيقة هو هدف بايدن المتمثل في “فرض عقوبات حقيقية على روسيا (بسبب انتهاكاتها للمعايير الدولية بحسب وجهة النظر الغربية) ومحاولة الوقوف إلى جانب المجتمع المدني الروسي”، فبايدن كان قد كشف اثناء حملته الانتخابية عن استعداده لاتباع سياسة طال انتظارها تستند إلى “المبادئ والقيم” كما يصفها البعض.
وبالنظر إلى سجل روسيا المروع في مجال حقوق الإنسان، فإنه من المتوقع أن إدارة بايدن قد تنفذ قانون ماغنتسكي، الذي يعاقب المسؤولين الروس المنخرطين في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، فقائمة ضحايا المعاملة الوحشية لأعداء بوتين المفترضين والتي اتهم فيها الغرب النظام الروسي طويلة، وتشمل اغتيال أو تسميم الجاسوسين السابقين “ألكسندر ليتفينينكو” و”سيرجي سكريبال” والصحفية “آنا بوليتكوفسكايا” وزعماء المعارضة “بوريس نيمتسوف” و”فلاديمير كارا مورزا” وأخيراً “أليكسي نافالني” سواء في روسيا أو على الأراضي الغربية.
وكان بايدن قد كتب في وقت سابق من هذا العام: “لمواجهة العدوان الروسي، يجب أن نحافظ على قدرات [الناتو] العسكرية المتفوقة، وتوسيع قدرته أيضاً على مواجهة التهديدات غير التقليدية، مثل الفساد المسلح، والمعلومات المضللة، والسرقة الإلكترونية”. وتابع: “يجب أن نفرض عقوبات حقيقية على روسيا لانتهاكاتها للمعايير الدولية والوقوف إلى جانب المجتمع المدني الروسي، الذي وقف بشجاعة مراراً وتكراراً ضد نظام الرئيس فلاديمير بوتين الاستبدادي”.
وفي مقابلة مع قناة CBS News في يوم الانتخابات 3 من الشهر الجاري قال بايدن إنه يعتبر روسيا “أكبر تهديد لأمريكا في الوقت الحالي من حيث تفكيك أمننا وتحالفاتنا”.
بالتأكيد كل هذا يشي بأن الأمور لن تكون على مايرام بين إدارة الرئيس المنتخب بايدن وبين بوتين الذي لم يهنئه على الفوز حتى لحظة كتابة هذه السطور، فكل التوقعات اليوم تشير إلى أن بايدن سيبدأ وفور تسلمه السلطة خطةً لتحجيم روسيا مما سيؤثر حتماً على الوضع في أوكرانيا وسورية، والذي خبرهما بايدن جيداً عندما كان نائباً لأوباما، ففي سورية نسج علاقات مع قيادات مجتمعية سورية معارضة لنظام بشار مثل الشيخ أحمد معاذ الخطيب الذي التقاه عدة مرات حينها، ونشأت بينهما علاقة خاصة قد تكون مفتاحاً لتغيرات إيجابية محتملة على الملف تحملها الاسابيع القادمة.
كما أنه من المتوقع أن تعود الإدارة لتقديم الدعم لكل مؤسسات المجتمع المدني التي أوقف ترامب دعمها ما سيجعل الدماء تجري في عروق تلك المنظمات والتي بالتأكيد تخفف شيئاً ما من عذابات أهلنا اللاجئين وتمدهم بأسباب الصمود.
هذا يعني أن قدوم رئيس ديمقراطي ليس بالضرورة سيصب بالمطلق في مصلحة النظام بل على العكس قد يحدث اختراق ما لصالح معسكر الحرية يفضي إلى تغيير محتمل.