بين “دمشق الحرائق”، مجموعة زكريا تامر القصصية، و”حريق في مدينة قذرة” مجموعة وديع اسمندر القصصية أيضا، بون شاسع يفصل بين رؤيتين لوطن واحد. زكريا تامر لخص رؤيته بقصة مباشرة اختار لها عنوان “الشجرة الخضراء” يختمها بجنود يوثقون رجلا على شجرة، فيقتلون الرجل والشجرة معا، فيما يختتم وديع اسمندر قصته بقيام ريفي يعمل في المدينة بحرق دمشق لأنها مدينة آثمة ظالمة.
من المؤكد أن دمشق غادة السمان وألفت إدلبي وخيري الذهبي وفواز حداد هي غيرها دمشق حيدر حيدر وسعدالله ونوس. دمشق السمان وإدلبي بيت عربي وشجرة كباد وعصير توت شامي، ومع كل ذلك سطوة التقاليد وقسوتها، ورغم ذلك تبقى مشاعر الحب والحنين لتلك المدينة التي يظللها الياسمين وتطوّقها الغوطة من جميع الجهات، أما دمشق سعدالله وحيدر، فهي دعارة مستترة خلف أسوار البيوت المغلقة المحتجبة عن الغرباء القادمين من الأرياف البعيدة المفتوحة على البحر.
ذات يوم قال الماغوط “دمشق التي أعطيتها صدري أربعين عاما أخشى أن أعطيها ظهري ثانية واحدة”، لا شك أن الماغوط لم يقصد دمشق المدينة بل دمشق السلطة، التي كانت تؤرقه، وتشعره برعب شديد كلما خلا إلى نفسه، كما كان يردّد في سنواته الأخيرة. فدمشق كانت للماغوط خيارا رفض في سبيله خيارات كثيرة ودعوات متواصلة للإقامة في لندن وباريس وبيروت وغيرها من العواصم التي كانت تدعوه فيرفض، مفضلا مقهى أبوشفيق في الربوة وبيته المتواضع في حي المزرعة.
أذكر أنني سألت الماغوط في أواخر تسعينات القرن العشرين عن أدونيس وعلاقته بدمشق، فقال “لم يستطع أدونيس أن يغفر لهذه المدينة سنوات الشقاء التي أمضاها في قبو بحي القصاع، كانت سنوات قاسية عليه، ولذلك كان بين أدونيس ودمشق ثأر وحساب لم يغلق”. لم تفاجئني إجابة الماغوط، فأدونيس نفسه صرح وكتب عن دمشق الميتة، المغلقة والمحاطة بالأسوار.
لقد راوحت صورة دمشق في الأدب السوري المعاصر بين هذين الانطباعين المتناقضين، صورة ترى الحريق في دواخل النفوس التي أنهكتها سلطة مستبدة، وصورة أخرى لا تنفك تتحدث عن مدينة مغلقة مسورة متعجرفة لا تمنح نفسها للغرباء، تستحق السحق والتدمير والحرق.
والحرق هو أكثر ما يخيف الدمشقيين ويسيطر على هواجسهم حين يفكرون في السلطة، فالمدينة تعرضت في مختلف مراحلها إلى الكثير من الحرائق المفتعلة التي تسببت فيها الاحتلالات والفتن، وربما كان آخر حريق كبير في مدينة دمشق قبل احتراق سوق العصرونية أخيرا، حريق حي سيدي عامود في العام 1925 على يد القوات الفرنسية المحتلة.
ولكن دمشق التي اعتادت على الحرائق غدت أشبه بالعنقاء، التي تنهض من رمادها، فها هو حي سيدي عامود المحترق أصبح الآن اسمه سوق الحريقة، أكبر وأغنى أسواق دمشق قاطبة.
المصدر : العرب