الرسائل التي تعمد الرئيس فلاديمير بوتين توجيهها خلال زيارته الخاطفة قاعدة حميميم لم تقتصر على البعدين الإقليمي والدولي، إذ كانت الرسالة الأكثر دلالة موجهة إلى الداخل الروسي.
كان في مقدور بوتين أن يعلن من موسكو انتهاء العمليات العسكرية، وبدء الانسحاب الجزئي. لكن وجوده في القاعدة الروسية محاطاً بجنرالاته، ومستعرضاً معهم مسار «الانتصار الكبير» وملامح المرحلة المقبلة. يضاف إلى المشهد الذي رسمت تفاصيله بدقة للرئيس السوري بشار الأسد واقفاً على بعد خطوة واحدة… خلفه. وكل ما رافق الزيارة من تفاصيل هدف إلى تكريس الفكرة التي طرحتها وزارة الدفاع الروسية مبكراً، منذ الأيام الأولى للتدخل الروسي المباشر في سورية: الرئيس الروسي هو صاحب قرار الحرب والسلام.
تجاهل بوتين مسار جنيف وهو يحدد الخطوات المقبلة. وثبت تحالفه مع إيران وتركيا كشريكين في صناعة التسوية السياسية. محدداً بذلك خياراته الإقليمية لاحقاً، مع إبداء الحرص على إقامة ركيزة ثالثة للسياسة الروسية في الشرق الأوسط من البوابة المصرية.
داخلياً، ثمة أهمية خاصة لتوقيت إعلاني «الانتصار» و «الانسحاب»، مرتبطة بانطلاق الحملة الانتخابية الرئاسية في روسيا. وعلى رغم أن بوتين يحظى بشعبية مريحة، ستحمله بثقة إلى كرسي الرئاسة لولاية رابعة في الربيع المقبل، لكن لا يمكن الكرملين تجاهل تزايد القلق لدى شرائح واسعة في المجتمع الروسي بسبب الحرب في سورية. وخلال عامين تزايدت المخاوف من انزلاق روسيا إلى «أفغانستان جديدة»، ومن شبح اتساع المواجهة مع الولايات المتحدة. عموماً، ساد نوع من «عدم فهم» أسباب التدخل، و «لماذا نرسل أبناءنا إلى بلد بعيد لا تربطنا معه مصالح كبيرة»، وفقاً لنتيجة استطلاع أجراه مركز دراسات الرأي العام في العام الماضي. وكان لافتاً أن أكثر من 50 في المئة من الروس قالوا أنهم يرغبون في انسحاب «فوري» للقوات الروسية من سورية في استطلاع أجراه مركز ليفادا المستقل قبل نحو شهرين.
في هذه الأجواء، اكتسب التركيز على «الانتصار العسكري الكبير» و «إنجاز المهمة» أهمية كبرى، خصوصاً عندما يتم ربط ذلك مع تكرار أن روسيا «نفذت عملية نظيفة» لجهة أن «الخسائر الروسية في حدود متدنية جداً».
وعكس خطاب الإعلام الرسمي جدية المخاوف من «محاولات غربية» للتدخل في مسار الانتخابات أو السعي إلى زعزعة الأوضاع الداخلية أثناء الحملة الانتخابية أو بعدها. وهنا، خدم المثل السوري هدف الترويج لضرورة «حماية روسيا من التداعيات الخطرة للتدخل الأجنبي».
لتحقيق ذلك استخدمت البروباغاندا الداخلية الروسية خطاباً مزدوجاً، فهي إلى جانب التركيز على التهديد الذي يمثله الإرهاب «العائد» إلى المدن والشوارع الروسية، والذي ذهبت روسيا لتحاربه في «معقله»، سعت إلى إيقاظ ذاكرة الروس الذين لم ينسوا بعد أهوال الحرب القوقازية، عبر عقد مقارنات لا تنطبق غالباً على الواقع السياسي أو حتى التضاريس الجغرافية. مثل الإشارة إلى أن «من تبقى من مجموعات إرهابية منفصلة في سورية يتحصن في الجبال الوعرة والغابات الكثيفة». وهي عبارة مستعارة من بيانات العسكريين الروس نهاية تسعينات القرن الماضي.
لكن الأكثر دلالة هي المقاربة التي تضع جانباً هدف «مكافحة الإرهاب» وتركز على أن المهمة التي تم إنجازها في سورية هي «النجاح في سحق الطابور الخامس الذي وظفته واشنطن لزعزعة الأوضاع في البلاد» وأن مهمة الغرب في حشد قوى موالية ستكون أصعب خلال المرحلة المقبلة.
كتب أحد المعلقين السياسيين البارزين أن السوريين «شبعوا من شعارات الديموقراطية، وباتت لديهم مناعة ضد الليبرالية». بمقدار ما تحمل العبارة إسقاطات داخلية، فهي تختصر في الوقت ذاته مغزى «الانتصار الروسي» في سورية.
المصدر : الحياة