بالتزامن مع قراره المثير للجدل والغضب على حد سواء، احتفل سيد البيت الأبيض مع نخبة من ممثلي الجالية اليهودية بما يسمى بعيد «الهانوكا»، ضمن حفل استقبال حميم.
لم يكن الحفل مجرد طقس مجاملة كتلك التي اعتادت القيادات الأمريكية تنظيمها ودعوة أبناء الأديان والعقائد المختلفة، بمن فيهم المسلمون، إليها، ولكنه كان أقرب لاحتفال عائلي، بدا فيه الرئيس ترامب مؤمناً بالوعود التوراتية، وهو يقدّم درساً تناقلته وسائل الإعلام، في تاريخ المعاناة اليهودية، وكيف أن ذلك الشعب المؤمن كان كثيراً ما يقدّم دروساً في الاستبسال والصبر، وأنه، أي ذلك الشعب المميز، لم يكن يعرف اليأس، رغم تعرضه للكثير من المحن ومحاولات الاستئصال من قبل «الأشرار».
احتفل ترامب هناك بتسليم القدس لليهود. تلك كانت هديته الثمينة لأصدقائه، وحين تحدث عن المدينة المقدسة، التي اعتبر أنه لا جدال في كونها ملكاً لهم، ذكّر بشكل ذكي بصهره ومستشاره اليهودي جاريد كوشنر زوج ابنته إيفانكا ووالد أحفاده. العائلة اليهودية الوليدة التي صارت مرتبطة بدوائر صنع القرار الأمريكية والتي كان حضورها مهماً في تلك اللحظات كانت تحتفل احتفال العائلة الواحدة مع رموز الجالية اليهودية وداخل البيت الأمريكي الأهم.
بشكل موازٍ كانت الخارجية الأمريكية لا تمل من التذكير بثبات الموقف الأمريكي من قضية فلسطين وأنهم، أي الأمريكيين، لا يقفون مع طرف دون آخر، بل إنها، وبشكل مثير للشفقة، كانت قد حذرت بشكل مبكر من تبعات قرار الرئيس ترامب وتأثيرات اعترافه وتعامله مع القدس كعاصمة للكيان. لا شك في أن الوضع الإقليمي المتعثّر والظروف السياسية المعقدة التي تعيشها البلدان العربية والإسلامية، ساعدت الرئيس الحالي على أخذ هذه الخطوة، بدون أن يخشى أي تبعات، إلا أن ذلك لا ينفي حقيقة أن هذه الخطوة كانت في ذهن كل الرؤساء السابقين وعلى جداول أعمالهم، وإنهم كانوا ينتظرون فقط الوقت المناسب والفرصة الجيوسياسية السانحة.
في عام 2007 صدرت الطبعة العربية الأولى من كتاب مادلين أولبرايت بالعنوان الموحي والمفعم بالإيمان: «الجبروت والجبار.. تأملات في السلطة والدين والشؤون الدولية». لقد تحدثت السياسية والدبلوماسية الأمريكية التي شغلت منصب وزيرة الخارجية، إبان فترة حكم الرئيس بيل كلينتون (1997-2001)، في هذا الكتاب عن إيمانها بالله، وعن توجيه ذلك الإيمان للسياسة الخارجية الأمريكية، عبرها وعبر شخصيات أخرى نافذة، منهم بيل كلينتون نفسه، الذي كتب مقدمة «متدينة» للكتاب. لا تكمن أهمية هذا الإصدار في ما يقدمه من حقائق مرتبطة بالسياسة الأمريكية وعالم العلاقات الدولية، من خلال تتبعه لمسيرة حياة سيدة أثّرت كثيراً في تاريخ عالمنا الحديث، ليس هذا فقط، على أهميته، بل في أنه جعلنا نكتشف كيف كانت هذه السيدة، ومن حولها، مسيّرين بما يعتقدون أنه جوهر الإيمان ورغبة الله.
الدين، بحسب أولبرايت، لا يمكن أن ينفصل عن شؤون الدولة، وهي تعتبر أن تلك الحقيقة ليست أمراً خاصاً بها ولا فلسفة شخصية، بل هي أمر ثبته التاريخ الأمريكي منذ نشأة دولته الحديثة على تلك الأراضي. تجعلنا أولبرايت نلاحظ أن كل رئيس أمريكي من جورج واشنطن وحتى الرئيس الحالي، اعتاد أن يطعّم حديثه بذكر الله وشكره، خاصة إبان حفل التنصيب، وأن معظمهم عبروا في تلك الاحتفالات عن شكر الرب على النعم التي وهبت بها أمريكا، في حين كان يؤمن كثير منهم بأن الله سيواصل تأييده للولايات المتحدة، ما دامت سياساتها أخلاقية وعادلة. تذكّرنا أولبرايت كذلك بأن الكثير من الرؤساء الأمريكيين قادوا الأمة في الصلاة في أوقات الأزمات الوطنية. أهمية كل ذلك تكمن في أنه يجعلنا ننظر للأحداث الحالية بشكل مختلف، فليس دونالد ترامب متعصباً شاذاً وخارجاً عن السياق الأمريكي، كما يروّج كثير من المعلّقين، بل هو متصالح بشكل كبير مع نفسه ومع هوية الولايات المتحدة التي يشكّل الدين الجزء الأهم فيها. مشكلة ترامب الوحيدة ربما تكون افتقاره للحس الدبلوماسي والبلاغة التي تحلى بها رؤساء سابقون كسلفه أوباما. خير دليل على ذلك هو الاستشهاد الذي تورده مادلين أولبرايت على لسان كالفن كولدج، الرئيس الثلاثين للولايات المتحدة، الذي كان يتحدث عن مسيحية أمريكا كإثبات على نواياها الحسنة: «إن الفيالق التي نرسلها تحمل الصليب لا السيف سلاحاً»، وقوله: «إن الدولة العليا التي نسعى إلى الحصول على تأييد كل البشر لها ليست ذات أصل إنساني وإنما إلهي».
استيعابنا لهذه النظرة المتشددة التي كانت تحملها أولبرايت، والتي هي مجرد مثال، يمكنه أن يلقي الكثير من الضوء الذي قد يساعد على فهم علاقة الغرب، خاصة الولايات المتحدة، مع العالم العربي والإسلامي. التعاون مع الطغاة والاستبداد، والموقف الملتبس من التحولات الديمقراطية، وعدم الحياد إزاء القضية الفلسطينية، التي تلعب الولايات المتحدة دور الوسيط وشريك السلام فيها، ثم الإصرار الغريب على توفير الحماية للكيان الصهيوني والمراهنة عليه، رغم تبعات ذلك على صورة أمريكا أمام شعوب المنطقة والعالم. كل تلك أمور تعجز النظريات البراغماتية أو الواقعية أو غيرها من نظريات العلاقات الدولية منفردة عن تفسيرها.
هذا كله يجعل العلاقة مع الإسلام نفسه معقدة وحذرة، ورغم وجود أشخاص صريحين لا يخفون كراهيتهم للإسلام، إلا أن الأكثرية، خاصة من رجال السياسة والدبلوماسية، لا تقر بوجود اختلافات أو تنافس حضاري، بل على العكس، تدعو لاحترام الإسلام واحترام قيم السلام والتعايش فيه، شرط أن يكون ذلك الإسلام «صحيحاً ومعتدلاً» وليس تلك النسخة المختطفة من قبل من يوصفون بالمتشددين.
الإسلام المعتدل يمثله في المخيلة الثقافية والسياسية الغربية أشخاص مثل الزعيم التركي كمال أتاتورك، الذي تمتلئ المكتبات الأوروبية والأمريكية بالأبحاث والكتب التي تثني عليه وعلى تجربته في وضع ديمقراطية إسلامية. أولبرايت سوف تضم صوتها لقائمة محبي أتاتورك مستشهدة بشكل غريب بوصفه للدين الإسلامي: «خنجر مسموم موجّه إلى قلب شعبي».
هذا الاستشهاد في الواقع يعبّر عن نفسه وهو يوضح كيف أن ذلك الزعيم المحبوب غربياً، لدرجة غض الطرف عن أخطائه وخطاياه، لم يكن مع الإسلام الحضاري المعتدل، بل كان في حالة عداء مع الدين وضد أي مساع لمزجه بالسياسة والثقافة والمجتمع.
بحسب هذا المنطق فإن من الطبيعي أن تتجاور العقيدة المسيحية والسلطة في السياسة الأمريكية، كما أن من الطبيعي أن تقوم دولة بإطلاق اسم نبوي على نفسها باحثة عن بقايا أساطير لا سند لها، ومعلنة أنها دولة لأصحاب الديانة اليهودية حصراً، أما غير الطبيعي فهو أن يدخل حزب بشعار أو اسم إسلامي الانتخابات، أو أن يقود حكومة في بلد مسلم. هنا فقط سوف يقابله العالم «الحر» بنظرات استغراب واستنكار: إن العصر عصر العلمانية التي تتجاوز ذلك المزج القديم والخارج عن السياق الحضاري بين الدين والسياسة.
المصدر : القدس العربي