تشير بيانات إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي لها آثار سلبية على الصحة العقلية للإنسان، ولكن لماذا نستعملها؟ وكيف تشوش على أدمغتنا؟
بداية تعتبر الرغبة في الاندماج مع الآخرين من أقوى دوافع الإنسان للعيش. وبهذا الصدد، أفاد ويليام جيمس -الفيلسوف الأميركي وأحد رواد علم النفس الحديث- في كتابه “مبادئ علم النفس” أن العزلة الاجتماعية يمكن أن أحد أشكال التعذيب.
وجاءت العديد من التجارب -التي أُجريت في علم النفس الاجتماعي- لتدعم رؤية جيمس، وتؤكد على المعاناة النفسية التي يشعر بها من يعانون من عزلة اجتماعية.
وفي الحقيقة فإن حاجة الإنسان -للتواصل والاندماج مع بني جنسه- إلى الكفاح من أجل البقاء على قيد الحياة منذ بدء تاريخ البشرية. وهذا الدافع الوجودي للبقاء أدى إلى خلق علاقات تعاونية بين البشر.
فالإنسان مُصمم لإنشاء وتقدير العلاقات الاجتماعية إلى حد كبير. لكن هناك أيضا ثمنا لهذه العلاقات. فمثلا يجب عليك استثمار وقتك لمساعدة الآخرين، وقد تشعر بالإحراج حين تقدِم على ارتكاب خطأ ما في مكان عام، أو قد تلتقط بعض الأمراض المعدية. لكن عموما، هناك العديد من الفوائد الناتجة عن هذه العلاقات.
في حين توفر التقنيات الحديثة في الوقت الراهن بدائل تسمح لمستخدميها بإشباع رغبتهم في التواصل الاجتماعي دون أن يضطروا لدفع الثمن مقابل ذلك. في الحقيقة، تسمح لك المواقع الافتراضية -على غرار فيسبوك والعديد من منصات التواصل الأخرى- بالتحكم في عمليات التواصل والتفاعل مع عدد كبير من المستخدمين، والتعبير عن مشاعرك عن طريق استخدام زر الإعجاب والرموز التعبيرية.
كما تتيح لك هذه التقنيات إمكانية تعديل ما تقوله مسبقا حتى تتجنب الوقوع في خطأ. وهذا التواصل الاجتماعي الافتراضي لا يتطلب منك مغادرة بيتك، مما يجعلك تحتفظ ببعض السعرات الحرارية، ويوفر لك الوقت، فضلا عن أنه يحد من خطر الإصابة بأمراض معدية.
من جهة أخرى، تجني الشركات -التي تنشئ تطبيقات التواصل- أرباحا ضخمة. ففي سنة 2017، حققت شركة سناب شات مداخيل تُقدر قيمتها بمليار دولار، وحققت تويتر مليارين، أما فيسبوك فحققت 40 مليارا. ويتأتى جزء كبير من هذه الأموال من الإعلانات على مواقعها، مما يشير إلى أن نقرات المستخدمين قد ساهمت في جعل الشركات -التي روجت لها مواقع التواصل- تحقق الكثير من الأرباح. يٌذكر أن تطبيق إنستغرام -الذي اشترته فيسبوك سنة 2012 مقابل مليار دولار- بلغت قيمته مؤخرا 35 مليارا.
ووفقا لدوغلاس كينريك بمجلة سايكولوجي توداي، فإن مستخدمي مواقع التواصل يساهمون في تعزيز بعض جوانب الاقتصاد. لكنه تساءل عما إذا كانت هذه المواقع الافتراضية مفيدة لصحة الإنسان.
آثار سلبية
في هذا الإطار، قدمت الأستاذة بعلم النفس الاجتماعي جان توينجي بيانات تشير إلى أن وسائل التواصل لها آثار سلبية على الصحة العقلية لا سيما الشباب. وفي الواقع، يعد الأشخاص الذين يقضون وقتا أطول على مواقع التواصل أكثر عرضة للاكتئاب والاضطرابات النفسية.
أما اﻟﺸﺒﺎب اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻘﻀﻮن وﻗﺘﺎً أطول ﻧﺴﺒﻴﺎً ﻓﻲ اﻟﺘﻮاﺻﻞ بشكل مباشر ﻣﻊ أصدقاء فعليين فهم معرضون بنسبة أقل للإصابة بالاكتئاب والقلق.
وأفادت توينجي بأن هذا الأمر مثير للقلق، لأنه بين سنة 2000 و2015 -أي منذ بداية استخدام الأجهزة الذكية، على غرار آيباد وآيفون- انخفض عدد المراهقين الذين يلتقون بأصدقائهم بشكل يومي إلى أقل من 40%.
وأشارت بعض دراسات علم النفس الاجتماعي إلى مقدار الوقت الذي يقضيه الشباب في استخدام مواقع التواصل بشكل يومي. وبينت إحدى هذه أن الجامعيين يقضون 143 دقيقة يوميا في إرسال الرسائل النصية والرسائل الإلكترونية، و81 دقيقة في تصفح وسائل التواصل على غرار إنستغرام وتويتر. وقد أضحى الاستخدام المتواصل للهواتف الذكية سببا رئيسيا في انخفاض مستواهم الدراسي.
ويمكن تشبيه وسائل التواصل بالنكهة اللذيذة التي تمنحها المثلجات لمحبيها. وقد كان أجدادنا يتوقون إلى صنع أغذية غنية بالدهون والسكريات، لكنهم وجدوا صعوبة في تحديد المصادر الغنية بالمواد المغذية فيها. وبناء على ذلك، فإن أنظمة المكافآت بالدماغ تعمل مثل ماكينة الحظ الموجودة في لاس فيغاس، حيث تضيء كل مرة نتناول فيها مثلجات غنية بالسكريات التي تحتوي على مواد مغذية تفوق كمية ما كان أجدادنا يتناولونه خلال أسبوع.
لكن عالمنا اليوم -وفي الدول المتقدمة على الأقل- يمكنك تخزين كميات كبيرة من الأغذية الغنية بالدهنيات والسكريات في ثلاجتك، وهو ما يقلل من احتمال تضوّرك جوعا. لكنك ستنعم بحياة طويلة وصحية في حال أضاء نظام المكافأة في دماغك كل مرة تتناول فيها الخضار.
وتعمل المثلجات اللذيذة على تشويش الحوافز المفيدة التي وضعها أجدادنا سابقا. وهذا ما يسميه المختصون في الفكر التطوري “عدم تطابق” بين آلية الأجداد والبيئة الحديثة.
وعلى هذا النحو، تعمل مواقع التواصل كالمثلجات بالنسبة للوحدات الاجتماعية الموجودة بدماغنا التي تضيء بمجرد الولوج السريع إلى هذه المواقع لتلقي الشائعات والنكات، والحصول على “إعجابات” من قبل عشرات الأصدقاء كل مرة بأقل جهد ممكن. لكن تناول الكثير من المثلجات قد يضر بصحتك، والأمر يبدو سيان بالنسبة لاستخدام وسائل التواصل بشكل مبالغ فيه، حتى في حال كنت تشعر بأنك دماغك في حالة جيدة.