تَبين أن لا شيء يمنع السوريين من الهجرة ومواصلة رحلة اللجوء إلى أوروبا، فعلى الرغم من كل مبادرات الحل، وعلى الرغم من هجمات باريس، أخيراً، واحتمالات تداعياتها في التضييق على المهاجرين، أو الحد من تقدمهم، وعلى الرغم من تعهد تركيا بتحسين أوضاع اللاجئين فيها لمنع عبورهم، إلا أن قطار الهجرة ما يزال يحمل السوريين من أرضهم، أو من مناطق اللجوء المجاورة لبلدهم إلى هذه القارة.
ولم تمنعهم مخاطر ركوب البحر، وأنباء غرق بعض من سبقوهم، ما داموا سيصلون إلى أرضٍ لا قتل أو براميل متفجرة أو قصف يطاولهم فيها. وهو ما سيسعون إلى نسيانه، بعد أن تطأ أقدامهم شاطئ اليونان، أو غيرها من الدول، مطلقين، وقتها، صرختهم المهجنة من تصوير المأساة وحالة الاحتفال بالنجاة، صرخة “أنا لم أمت.. أنا لم أمت”.
لا يُذَكِّر البحرُ السوريين سوى بسوريين آخرين عبروه من قبلهم أو ابتلعهم قبل الوصول. فالبحر للسوريين هو انعكاس صورة قتلاهم المسجّين في قاعه على سطحه إن سكن، وهو درب هجرتهم من أول الموج إلى آخر الموج. وعبارة “أنا لم أمت” صرخة، أو ربما هتاف يطلقونه.
هم الذين لا يُصدِّقون أنهم على قيد الحياة، بعد أن خبروا كل أشكال فقدانها. منهم من لا يعرف أنه لم يمت بفعل قذيفة، ومنهم من لا يصدّق أنه لم يغرق في مياه البحر، فبعد قصفٍ طاول حياً شعبياً في إحدى المدن السورية، يظهر رجل من بين الدمار والغبار الذي خلفته قذيفة، حاملاً بيديه طفلة تبكي. ولكي يهدئ من روعها، لم يجد ما يقوله لها سوى: “إنتِ ما مِتِّ يا عمو.. إنتِ ما مِتِّ”.
وفي الطرف الآخر، تقع امرأة في مياه البحر ساعة وصولها إلى شاطئ جزيرة لزبوس في اليونان، قادمة من تركيا، ينقذها أحد المتطوعين الذين ينتظرون قوارب المهاجرين على الشاطئ، لتقديم المساعدة للقادمين على متنها، فتصرخ السيدة المسنة كأنها تطمئن نفسها، بعد أن أخرجها الرجل سريعاً من المياه: “أنا لم أمت.. أنا لم أمت”.
بعد مضي سنوات أربع على اندلاع الحرب في سورية، أصبح الموت محدداً لحياة السوريين، وموجهاً خطواتهم ونشاطاتهم اليومية. ولا يتغلبون على هذا الهاجس، أو بالأحرى الزائر اليومي المقيم بينهم، سوى بإرادة الحياة وإرادة البقاء التي خلقت لديهم، لانعدام بدائل تمنعه من قطف أرواحهم أو تخرجهم من مناطق ألفت القصف الدائم والحصار وفقدان وسائل العيش. ولعل انعدام تلك البدائل جعل الحرب عادة لديهم، يعيشون تفاصيلها وقصصها وقصص القذائف المنهالة عليهم، أو قصص الهروب من القذائف، بفضل موهبة تحديد مكان سقوطها المتوقع، عبر متابعتهم أصواتها. وهي موهبة ظهرت لديهم، بحكم العادة، التي أحدثت عندهم فطرةً ومعرفة لكل أنواع القذائف والرصاصات وكيفية التعامل معها. قد ينجحون بالنجاة، أحياناً، وقد تكون القذيفة أكثر ذكاء من فطرتهم، فيتناثرون. لكن، يبقى آخرون من بعدهم، يعيدون تكرار المشهد عينه في المنطقة نفسها أو في غيرها، فإما أن يموتوا موتاً صاروا يتوقعونه ويتقبلون فكرته، أو تخطئهم القذيفة، فيحتفلون بتأخر موتهم.
وكما الذين يعيشون في ظل هاجس الموت، ولا يعرفون متى يصيبهم، لبقائهم على أرضٍ تتلقى كل أسبابه يومياً، كذلك أيضاً من هرب من الموت واحتمالاته إلى احتمالات موتٍ بأسباب أخرى. والذين كانوا يعدون بالآلاف أصبحوا الآن عشرات الآلاف، يخطون رحلتهم للخروج من أرض الموت عبر دروب يحدها الموت أيضاً، ليصلوا إلى شواطئ قد تقودهم إلى موت آخر، ومن نوع آخر.
أو قد يفلحون بالنجاة، أو قد تكتب لهم النجاة في رحلة القوارب التي لا يركبها سوى من فقد كل أمل. ومن غيرهم السوريون، الذين فقدوا كل أملٍ يمكن أن يتعلق به إنسان يعيش تحت القذائف، أمل بانتهاء الحرب من أجل عودتهم، أمل بالعودة إلى بيوت ربما دمرت، أو مدنٍ ربما اندثرت. وفقدوا كذلك وعود تحسين ظروف لجوئهم في الصحاري والمناطق الجرداء في الجوار، فضاعت الوعود في أول عاصفةٍ ثلجيةٍ هبت على خيامهم فجمدتهم، أو في عاصفة رمليةٍ أحرقت جلودهم، وأخفت الضوء عن عيونهم.
ومن لم يهله الموت في سورية، هالته صعوبة العيش والبقاء على قيد حياة، أصبح الاستمرار فيها بطولة تضاهي بطولة النجاة من الموت. فهنالك كثيرون يعيشون في ظل حصار، مرّت سنوات، ولم يُفك طوقه عن مدنهم أو أحيائهم. وهنالك من يعيش خارج الحصار، وخارج نطاق سقوط القذائف، يعيش أزمة البلاد وحربها أزمةً في حياته، على الرغم من سلامة جلده. لكن، على الرغم من تشظي أمكنة هذا وذاك وذاك، تجمعهم عين ترقب قوارب يعرفون أنه قد لا يكون سواها أملهم، ويد تتفقد أعضاء الجسد كل صباح، فهم، ككل السوريين، سيظلون غير مصدقين أنهم ما زالوا على قيد الحياة.
والمهاجرون الذين لم يستطع ثقلهم الضاغط على أوروبا بعد من إخراج صوت هذه القارة من قاع صمتها، وإسماعه في لقاء فيينا، لجعل كفة الميزان تميل قليلاً نحو سير جدي نحو الحل، يعوّل على موجاتهم التي يبدو أنها لن تتوقف، إن لم يصبح العمل جدياً لإيجاد الحل. فلعلهم يكونون هم من سيجبر هذه القارة في المستقبل على الاضطلاع بدورها، عبر تفعيل العقوبات التي فرضتها على روسيا المتحكمة بالقرار السوري حالياً. كذلك في جعلها تستغل ما بدأت تحيكه من علاقات مع إيران، بعد تخفيف العقوبات المفروضة عليها، لكي تجعلها تصبح أكثر مرونة في التعامل مع الحل في سورية.
المصدر : العربي الجديد