أوروبا في حالة تأهب قصوى لحماية دولها ومواطنيها. الذين عاشوا في هذه القارة طوال العقود الثلاثة او الاربعة الماضية، يعرفون الفارق بين ما يحصل اليوم في مطارات وموانىء وشوارع المدن الاوروبية، من لندن الى باريس الى بروكسيل وسواها، وكيف كانت الحال في زمن مضى.
مشهد الجنود، الى جانب رجال الشرطة، مسلّحين يتجولون في اروقة المطارات او أمام المدارس ومكاتب الصحف، ينبىء بأوروبا جديدة لم نعرفها من قبل، تتخذ اجراءات واحتياطات امنية عالية واستثنائية. لكنها ايضاً اوروبا خائفة، وهي خائفة بالدرجة الاولى من مواطنين منحتهم جنسياتها، او حصلوا عليها نتيجة ولادتهم في دول القارة، وها هم اليوم يتحولون الى المصدر الاول لقلقها وخوفها.
اوروبا تتغير. ليس أمنياً فقط، بل سياسياً واجتماعياً وقانونياً ايضاً، وهذا هو الأخطر. دعونا نقرّ ببعض الحقائق التي قد لا تعجب البعض منا، من الذين يحملون التاريخ فوق ظهورهم، ولا يحبون الالتفات الى الحاضر والتعلّم منه، كما لا يرغبون ايضاً في استشراف مستقبل افضل. اوروبا هذه، التي كان لها تاريخ استعماري بغيض ومخجل في افريقيا وآسيا واميركا اللاتينية، هي القارة الوحيدة التي اتاحت لنفسها حرية وجرأة فتح ملفات هذا التاريخ الاستعماري والاعتذار عنه والتكفير عمّا ارتكبته خلاله. بالمقابل، دعونا نسأل، اذا سمحتم: ماذا فعلنا نحن حيال الدول التي وصلت اليها جيوشنا وفتوحاتنا فغزت واستوطنت فيها؟ وما هي طبيعة الحريات السياسية والدينية، والتنوع الاجتماعي والثقافي، الذي سمح به وجودنا في تلك المناطق؟
اوروبا تتغير ثقافياً واجتماعياً، وهذا الاخطر. والخوف هنا ان اوروبا تتغير، او هي في خطر ان تتغير، لتصبح … مثلنا. أي أقل قدرة على احترام التعدد، وأقل استعداداً لقبول الآخر، وأقل جرأة على الاعتراف باخطائها. واذا كان من «فضل» في هذا التحول المخيف الذي نخشى منه على هذه القارة، فانه بفضلنا، بفضل وجود البعض منّا في هذه القارة وارتكاباتهم فيها، تحت ذرائع وحجج واهية، تتصل اساساً بالتناقض الحاد بين رؤية هذا البعض الى ذاته والى علاقاته بالآخر، وبين الرؤية الحضارية والمتسامحة، التي ميزت العقل الثقافي الاوروبي حتى الآن، وكانت في الاساس وراء فتح حدود هذه القارة لكل لاجىء سياسي او مضطهد في بلاده، ولكل ساعٍ وراء تحسين ظروفه المعيشية والاقتصادية والعائلية. انها الضريبة التي تدفعها اوروبا اليوم مقابل هذا الانفتاح والتسامح، من خلال ملايين المقيمين فيها الذين وجدوا أن ثقافتها المتسامحة والقائمة على احترام الآخر والثقة بمواطنته، هي فرصة لاستغلال هذه الدول وللبلطجة على ما تيسّر من تسهيلاتها وخدماتها الاجتماعية، بحجة ان هؤلاء الاوروبيين سذّج، ولا يعرفون كيف يديرون بلادهم وكيف يوفرون لها الحماية!
لست ادري اذا كانت اوروبا ستسمح لنفسها، تحت ضغط العامل الامني الذي يهيمن الآن على القرارات التي يتخذها قادتها، ان تنزلق الى هذا المصير الذي نخاف منه وعليه. لست ادري اذا كانت المناعة التي حصّنت النموذج الاوروبي (نعم انه نموذج) ستبقى فاعلة امام الانفلات غير المبرّر لبعض الجماعات الارهابية التي تسيء الى نفسها والى قضاياها، بقدر ما تهدد الفرص التي اتاحتها اوروبا لعائلات هذه الجماعات، والتي تكاد تصبح فرصاً نادرة اليوم، امام تهديدات اغلاق الحدود وسحب الجوازات ومنع ازدواج الجنسيات والتضييق على الحريات من كل نوع.
انها اوروبا التي كنا نحبها، والتي سيشكل تغيّرها اذا حصل، خسارة لها ولنا، كما هي خسارة لكل ساعٍ الى الحرية في كل مكان.
الحياة – وطن اف ام