المطلع على تسلسل الأحداث يستنتج أن الأمريكيين رغم تصريحهم بأنهم لا يريدون التدخل في سورية إلا أنهم كان لهم الأثر الأكبر في خلق كيان كردي يسيطر على مساحة تقدر بثلث سورية، ممتدة من جرابلس حتى البوكمال أي أراضي شرق نهر الفرات والتي تعرف بالجزيرة السورية، هذه السيطرة حتى وإن كانت غير مكتملة اليوم لوجود قوات محدودة للنظام في مراكز المدن، وجيوب لداعش وبعض نقاط عبور للميليشيات الإيرانية، إلا أن مناطق النفوذ تلك جميعها موجودة بإرادة أمريكية فهي بحكم الساقطة عسكرياً عندما تريد أمريكا ذلك.
لقد تغير خطاب الأحزاب الكردية الإنفصالية اليوم بعدما أصبح التدخل التركي واقعاً في عفرين، وبعد أن اتفق الأتراك مع الأمريكيين على تسيير دوريات في منطقة منبج، فبعد أن أعلنت تلك الأحزاب في أكثر من مرة وبشكل انتهازي أنهم لن يرضوا بسقف أقل من الفيدرالية شبيهة بتلك التي يتمتع بها نظرائهم العراقيين، عادوا منذ أشهر ليعلنوا أن سقف مطالبهم هو “اللامركزية”، لكنهم كعادتهم في التلاعب بالمصطلحات لم يلحقوها بكلمة “الإدارية” بل ألحقوها ب”الديمقراطية” فأصبحت “اللامركزية الديمقراطية”!، طبعا تلك الأحزاب لها تاريخ في التلاعب بالمصطلحات، فبعد ابتكار أوجلان لمصطلح “الأمة الديمقراطية” مارس الأكراد ازدواجية غير مسبوقة في التعبير وفي الممارسة، فمن جهة حافظوا على تاريخ حزبهم “pkk” كتراث نضالي واستقطاب للشباب الكردي بنفس منهجية الخطاب القومي، ومن جهة أخرى قاموا بتغيير أسماء أحزابهم الجديدة ووسموها بالديمقراطية جميعها، وكأنهم يريدون أن يثبتوا بالأسماء أنهم ديمقراطيون، بعد أن شطبوا كلمة كردي من كل أسماء مؤسساتهم!، المهم أن هذا التغيير أقنع النظام، وعقد الجانبان لقاءات تم فيها مناقشة قضايا الإدارة الذاتية وغيرها، كما صرحت بذلك رئيسة الهيئة التنفيذية لما يسمى مجلس سورية الديمقراطية في شهر آب أغسطس الماضي.
وفي الحقيقة ورغم واقعية فكرة “آبو” (الأمة الديمقراطية) وإمكانية تطبيقها، ورغم النوايا الصادقة لدى الأخوة الكرد في محاولة تبنيها، إلا أن ما يحاك من قبل الأمريكيين يشي بأنهم يرتبون ما هو أخطر لتلك المنطقة، فالمنطقة الغنية بالنفط والمياه والثروات هدف استراتيجي لدول عديدة تتلطى بينها إسرائيل التي لها أصابع خفية في ما يجري من ترتيبات هناك، وما تسرب من معلومات هو أن الأمريكيين اقترحوا على العرب تشكيل تحالف يرفع شعار محاربة داعش (والتي يؤجل الأمريكيون هزيمتها لتحقيق هذا الهدف) يكون قوامه قوات عربية خليجية تحديداً بعد أن رفض المصريون بشكل ضمني إرسال مثل تلك القوات، هذه القوات ستكون قوات قيادية أكثر منها عملاتية، لكنها ستزج بالأكراد كجنود للمواجهة في الصفوف الأولى، تلك المواجهة التي ستكون ضد كل ما هو سوري مدعوم من تركيا وضد تركيا أيضاً التي تطمح لأن تشكل حزاما أمنيا على طول حدودها مع سورية، مثل هذا العمل سيمنع تركيا من التدخل العسكري في مناطق شرق النهر وستكتفي بمنبج وسيمنع عنها دخول شبر بإتجاه شرق الفرات لأن ذلك سيعرضها للمواجهة مع أمريكا وحلفائها العرب بالإضافة إلى القوات الفرنسية والإيطالية المتواجدة اليوم في المنطقة.
فكرة جلب قوات عربية للمنطقة تهدف إلى جعل العرب السنة هناك ينخرطون في مشروع التقسيم، عبر توزيع مكتسبات مادية عليهم وتنمية محلية وغير ذلك، مع إبقاء الأمن والجيش في يد الأكراد تماماً كما كان الحال في سورية، فالأمن والجيش بيد العلويين متحالفين مع كمبرادور فاسد من السنة والمسيحيين، لتقاسم المنافع الاقتصادية تلك الخلطة التي ساعدت النظام بشكل كبير عندما بدأت الثورة، نفسها ستتكرر في مناطق الجزيرة السورية، لكن هذه المرة بين الأكراد والعرب السنة، ثم لاحقاً سيتم سحب القوات العربية الدخيلة، بعد تطويع عرب المنطقة لصالح المشروع الأمريكي لتبقى القوات الأجنبية بالحد الأدنى الداعمة للأكراد في تلك المناطق.
للأسف فإن حقد بعض أنظمة الإستبداد العربية على تركيا ومحاولتهم خلق حاجز بينها وبينهم كما صرح بذلك الجنرال السعودي أنور عشقي في أكثر من لقاء يدفعهم ليتخيلوا أنهم بإمكانهم التلاعب بالمكون الكردي السوري وخلق شروخ في بنية الشعب وتلاحمه وقد شجعهم على ذلك وجود أكراد قوميين عنصريين تصرفوا تصرفات ماكان يجب أن يتصرفها أبناء البلد الواحد، لكن بالمقابل حصلت تجاوزات من القوات ذات المكون العربي مساوية لتصرفات الكرد!، كل ذلك حصل بدون أن يفكر أي طرف بتداعياته، لكن يحدوني الأمل بأن فكرة “سروك آبو” أوجلان ستسيطر بنهاية الأمر على العقل الجمعي الكردي السوري وسيسعون لتطبيقها، لأنها المخرج الحقيقي لكل الصراعات الإثني، فهي بوتقة تذوب فيها كل القوميات العربية والكردية والتركية، وتنصهر لتشكل “أمة ديمقراطية” حقيقية.
إن إفشال مخطط التقسيم الخبيث ليس منوطاً بالأكراد وحدهم بل بنا جميعاً بل والأتراك أيضاً، فما يحصل بعفرين هو الميزان لتقديم نموذج حضاري يمكن استنساخه، ففي حال نجاح تلك التجربة فإن صداها سيتردد بلا أدنى شك في شرق النهر، وإذا فشلت وكثيرون يحاولون إفشالها فإن ذلك أيضاً سيكون له تداعيات على شرق النهر.
فريقا المواجهة في معركة تقسيم سورية هما: أمريكا ومن خلفها إسرائيل والسعودية والإمارات، وتركيا ومن خلفها روسيا وإيران، اللتان تخشيان من مصير مشابه لأن أي تقسيم على أساس عرقي سينتقل لا محالة لدول أخرى، وضعف النظام الإيراني اليوم يدفعه للتفكير ألف مرة قبل أن يقدم على دعم مثل تلك الخطوة، خصوصاً أنه الهدف التالي مباشرة بحسب الترتيب الأمريكي، وبالطبع فإن السوريين جميعاً نظاما ومعارضة وأكرادا غير قادرين على التأثير في الأحداث الجارية، إلا بمقدار ما يسمح به الحليف، ويبقي كل فريق على أوراق لعب مخبأة في هذه اللعبة الاستراتيجية، قد يلعبها في وقت لاحق إذا دعت الحاجة، فالأمريكيون لديهم ذريعة داعش لتبرير وجودهم ورأينا كيف أنهم مؤخراً طرحوا ذريعة أخرى وهي الوجود الإيراني ولديهم أوراق كإشراك العرب في اللعبة، ولدى الأتراك أيضاً أوراق قد يكون منها الجولاني الذي من المحتمل أن يسبب صداعاً دائماً للأمريكيين في تلك المناطق، بعد أن ينتقل إليها، ثم ورقة أوجلان نفسه، والذي يكن عداءاً تاريخياً للأمريكيين وهو الأب الروحي والمفكر الذي ابتكر فكرة الأمة الديمقراطية التي يحاول الأكراد تطبيقها.
روسية والنظام يتصرفان وكأن الأمر لا يعنيهما وهو كذلك فعلاً، فالمنطقة الشرقية لم تكن تمثل له إلا بئر نفط، يحول ريعه إلى حساباته الخاصة في سويسرا، وقد يستعيض عنه بما سيدفعه له الروس من عائدات الغاز بالمستقبل كما يتوهم، وهو لا يعنيه من سوريا إلا أن يبقي الحواضر السنية كحلب وحمص وحماه ودمشق تحت سيطرته فمن دون تلك المدن لن تستمر دولته إذ لن يكون هناك من يسرق هو وحاشيته وهذا ما أطلق عليه سوريا المفيدة.
روسيا تحاول تصوير الأمر وكأنها انتصرت وأعادت سوريا إلى سيطرة الحكومة الشرعية كما تصفها وتغطي على استيلاء أمريكا على المنطقة الحيوية منها، وتترك لتركيا إخراج أمريكا من تلك المنطقة بطريقتها.
في النهاية سيبقى الأمر على ما هو عليه مدة ليست بالقصيرة وقد يستمر لسنوات وعقود والثابت الوحيد في هذه المعادلة هو أن الطغاة المستبدين هم السبب الحقيقي لتقسيم المنطقة ولصراعاتها وقبل التخلص منهم لن نستطيع بناء وطن قوي ومعافى، فأبناء الوطن الواحد ينبغي أن يتمتعوا بالحرية قبل أن يتمتعوا بالمواطنة عدا ذلك سنبقى على رصيف الغربة ننتظر لحظة القدر المناسبة لنركب قطار المستقبل.