في غضون عامين قفزت قضية «المهاجرين» إلى صدارة الاهتمام الغربي واحتلت موقعها المتقدم على قائمة اولويات العمل السياسي المشترك خصوصا في اوروبا. وكان لذلك نتائج عديدة من بينها دفع البريطانيين لاتخاذ قرار الانفصال عن الاتحاد الاوروبي، وصعود اليمين المتطرف، وتكلل ذلك بفوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية. فما الذي حدث؟
وما دلالاته؟ واين هو موقع المبدأ الذي نص عليه الاعلان العالمي لحقوق الانسان بان للانسان حرية التنقل والسفر واللجوء؟ وهل تنحصر هذه الظاهرة ضمن العالم الغربي؟ وثمة تساؤلات كثيرة حول الهجرة بمفهومها ومصاديقها المعاصرة، خصوصا ان الاضواء مسلطة على المهاجرين المسلمين. وقد خص الرئيس الأمريكي الجديد مواطني سبع دول مسلمة بقراره المثير للغط بمنع مواطنيها من دخول أمريكأ: إيران والعراق وسوريا والصومال والسودان وباكستان وافغانستان.
وبرغم ان المحكمة قضت بتجميد ذلك المنع، ولكن ليس متوقعا ان يتخلى ترامب عن ذلك القرار الذي استهوى الكثيرين من الأمريكيين ودفعهم للتصويت له. ومن المؤكد ان القرار له دوافعه السياسية التي تمتزج بالاوضاع الاقتصادية ولا تنفك عن الدوافع الثقافية والدينية.
كما انعكست شعارات ترامب على الاوضاع الاوروبية، فتبنتها المجموعات اليمينية المتطرفة، وحركت المشاعر الكامنة لدى الكثيرين لاحتضان المرشحين ذوي التوجهات اليمينية المعادية للمهاجرين، حتى ان بعض هؤلاء المرشحين يقتربون من الفوز بالانتخابات. وليس مستغربا ان تفوز ماري لوبان بالرئاسة الفرنسية نتيجة هذا التحول لدى الرأي العام الفرنسي. وثمة تساؤلات عما إذا كانت شعارات الحرية والديمقراطية والقانون الدولي الانساني واللجوء السياسي وحكم القانون المطلق بعيدا عن اعتبارات العرق او اللون او الدين، ما تزال حية في العقول والنفوس. ام ان ذلك الطرح «نسبي» و «ظرفي» مرتبط بالاوضاع وليس مؤسسا على مبادئ ثابتة. ولذلك اصبح من الضرورة اعادة فتح السجال حول قيم المجتمع الغربي المعاصر، خصوصا في مجالات الديمقراطية وحقوق الانسان والمواطنة المتساوية والتضامن الانساني.
ثمة حقائق يجدر الاشارة اليها: اولاها ان الإسلام شهد ظاهرة الهجرة في وقت مبكر، عندما أمر رسول الله عليه افضل الصلاة والسلام اصحابه بالهجرة إلى الحبشة قائلا: ان فيها ملكا لا يظلم الناس عنده. فالامن لا يتوفر إلا في ظل النظام العادل. وحدثت هجرتان إلى الحبشة، أولاهما في السنة الخامسة للبعثة وشملت اثني عشر رجلا وأربع نساء. اما الثانية فقد شملت 83 رجلا و 18 امرأة. وجاءت الهجرة الثالثة، وربما هي الاهم في التاريخ الإسلامي، وذلك عندما خرج محمد عليه افضل الصلاة والسلام في ظلام الليل متوجها من مكة إلى المدينة، برغم الخطر الذي كان محدقا. فقد تحالفت القبائل ضده وجاء كل منها برجل للمشاركة في الهجوم عليه وقتله في فراشه. وتؤكد وقائع التاريخ ان ابن عمه، علي ابن ابي طالب، افتداه بنفسه ونام في فراشه. وبذلك فشل اكبر مخطط قبلي للاجهاز على دين الله، بقتل رسوله الكريم. وما اكثر الهجرات اللاحقة في التاريخ الإسلامي، ومنها هجرة الصحابي أبي ذر الغفاري إلى الربذة في عهد الخليفة الثالث، عثمان بن عفان. وتحتوي دفتا القرآن الكريم آيات عديدة تحث على الهجرة حين تضيق الدنيا على الانسان، حتى قرنها بالايمان والجهاد (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا). والهجرة ليست هربا من الواقع المر، بل هي تغيير في المواقع لممارسة المهمات المقدسة من اصلاح وبناء واعمار للارض واقامة العدل والتصدي للظلم.
الثانية: ان التركيز الإعلامي والسياسي في الغرب منصب هذه الايام على اللاجئين المسلمين الذين عبروا بين ضفتي البحر المتوسط ليصلوا إلى اوروبا. ويسجل لرئيسة الوزراء الألمانية موقفها التاريخي العام الماضي حين استقبلت قرابة المليون لاجئ وشجعت نظراءها الاوروبيين على فتح الابواب امام اللاجئين. وبغض النظر عن مدى صحة ذلك القرار، فالواضح ان العالم تجاهل اسباب الهجرة واهمها الاوضاع السياسية والاقتصادية في البلدان التي ينحدر منها اولئك المهاجرون.
في الاسبوع الماضي اتخذت قرارات عديدة ذات صلة بالهجرة. اولها تعمق الشعور الاوروبي بضرورة غلق الحدود امام المهاجرين خصوصا الدول الإسلامية. وقد اظهر استطلاع قام به معهد العلاقات الخارجية البريطانية (تشاتام هاوس) الاسبوع الماضي شمل 10 آلاف مواطن من عشر دول اوروبية نتائج مقلقة. فقد صوتت نسب كبيرة مع اقتراح بوقف اية هجرة اضافة من الدول الإسلامية: بريطانيا: 47 بالمائة، اسبانيا، 41 بالمائة، فرنسا 61 بالمائة، ألمانيا 53 بالمائة، النمسا 65 بالمائة، بلجيكا 64 بالمائة، بولندا 71 بالمائة، المجر 64 بالمائة، ايطاليا 51 بالمائة واليونان 58 بالمائة. هذه النسب مقلقة جدا لأنها تعكس تعمق النفور الاوروبي من استقبال المهاجرين، وهو امر سينعكس على العلاقات مع المسلمين في هذه البلدان. ثانيها: قرار بريطانيا سحب جنسيات اربعة باكستانيين ادينوا بجرائم جنسية بحق فتيات بريطانيات ومن ثم اعادتهم إلى باكستان.
وقد اقرت المحكمة قرار وزارة الداخلية سحب الجنسيات، وهو اجراء غير مسبوق في مثل هذه الحالات. ومع الاعتراف بفداحة الجرائم المنسوبة للمجموعة الباكستانية، فان سحب الجنسية ظاهرة مقلقة للكثيرين. وفي السابق اقتصر سحب الجنسية على المدانين بقضايا إرهابية. ثالثها: انتشار انباء بان الحكومة السعودية قامت بترحيل حوالي 40 الفا من الباكستانيين في الشهور الاربعة الاخيرة من الجزيرة العربية بذريعة محاربة الإرهاب. وقال عبد الله السعدون، رئيس لجنة الامن بمجلس الشورى ان الانتماء السياسي والديني (المذهبي) للعمال الاجانب يجب ان يفحص قبل السماح لهم بدخول البلاد.
واضاف: «ان باكستان تعج بالإرهاب نتيجة قربها من افغانستان، وان حركة طالبان المتطرفة ولدت في باكستان». ثمة فرق كبير بين هجرة المسلمين إلى دول الغرب ووجود العمالة الاجنبية بدول مجلس التعاون الخليجي. فحين يخاطر المهاجرون بانفسهم واهلهم ليعبروا البحار والمحيطات من اجل حياة هادئة في الغرب، فان ذلك مؤشر لمدى تداعي الاوضاع الأمنية والمعيشية في بلدان العالم الإسلامي. فهذه الدول تعاني من اضطرابات سياسية لم تنته منذ اربعة عقود، وتهدد باستقرار المنطقة وخسارة اجيال متلاحقة من المواطنين الذين فقدوا الامن المعيشي في اوطانهم. فمن المسؤول عن اوضاع هذه البلدان التي بلغت من التردي ما يدفع اهلها للهجرة وتحمل مخاطر البحار والمحيطات بحثا عن ملاذات آمنة؟ ما الذي حول بلدانا مثل العراق وسوريا والصومال والسودان إلى بلدان لا توفر لمواطنيها الامن والاستقرار المطلوبين؟ من المسؤول عن ضياع الامن في هذه البلدان وتداعي الاوضاع المعيشية فيها؟ فاكثر هذه البلدان فقرا يمتلك ثروات زراعية عملاقة، ويستطيع بشيء من حسن الادارة والتخطيط تطوير اوضاع مواطنيه. ولكن ذلك مشروط بان يسود حكم القانون والمواطنة المتساوية وغياب الفساد المالي والاداري، والقدرة على تثبيت الامن.
الغرب يعيش ازمات اخلاقية كثيرة، ومن اكثرها وضوحا حالة انقسام الذات الغربية بين ما تعتقده من مبادئ تنظم الديمقراطية وتحمي حقوق الانسان، وضغوط الاوضاع السياسية والاقتصادية والدينية. فبرغم المواقف الايجابية من جانب الكنيسة في الموقف الداعم للمهاجرين، فان الكنيسة يخالجها امران: ضرورة التقارب بين الاديان، والحساسية من انتشار الإسلام وتوسع دائرته. ايا كان الامر فان تراجع الخطاب الديني في قضايا الديمقراطية وحقوق الانسان، امر محبط وغير بناء. فاذا كان التعاطي مع ظاهرة الهجرة يتم على اسس الانتماء للدين او العقيدة او الايديولوجيا، فالمطلوب ان تسود المشاعر الإنسانية هذه الظاهرة فيتم التعاطي معها بانسانية بحتة لا تخالطها مشاعر الانتماءات الاخرى. الغرب امام تمحيص مهم، بين ان الالتزام بالمشروع الديمقراطي، نصا وروحا، او ان يكون ساسته وكلاء ضعاف لقوى خفية تسعى دائما للتشطير والتمزيق و «شيطنة» الآخر. اللجوء حالة انسانية لا يجوز اخضاعها للاعتبارات الاخرى، والتخلي عنها يعني تراجع الغرب عن التزاماته الإنسانية والسياسية.
المصدر : القدس العربي