مقالات

حسام كنفاني: الذبح مستمر

لا يمكنك، وأنت تشاهد تدمير تنظيم داعش التماثيل الأثرية في متحف الموصل، إلا وأن تشعر بفداحة ما وصلنا إليه في المنطقة، التي تمثل، بالمفهوم الأنثروبولوجي، مهد الحضارات الإنسانية.

لا يمكنك، وأنت تراقب كم الغل الذي يدمر به هؤلاء منحوتات يفوق عمرها خمسة الآلاف عام، إلا أن تتيقن أنّ المغول، وتدميرهم بغداد ومكتبتها، لم يكونوا أسطورة، أو حكاية عابرة في كتب التاريخ، فهم لا يزالون بيننا يتحينون فرصة الظهور، والإعلان بزهو وفخر، عن كل ما خزنوه من تخلف في مجتمعات موبوءة.

في كل مرة نعتبر فيها أن هؤلاء وصلوا إلى قمة الهمجية، يفاجئوننا بأن، في حوزتهم، مزيداً من الأفعال التي يرونها نابعة من التراث الديني الذي تلقوه في المدارس، أو على السليقة، قبل أن يطوره داعش الذي وجد في هذه النوعية من البشر أرضاً خصبة لأفكاره، المسنودة، أيضاً، بأقوال ونصوص منتشرة في الكتب والفتاوى الفالتة من أي ضوابط. حين بدأ التنظيم دق الأعناق، وخصوصاً لمن لديه من أسرى عرب وغربيين، قال، في بياناته، إنها رسالة إلى الدول المتحالفة ضده، والتي تسعى، على حد تعبيره إلى منع قيام الدولة الإسلامية، ودعم أفعاله بالحجج الشرعية والبراهين المكتوبة.

وعندما توجه إلى الحرق، كنوع من الإدهاش بالهمجية، قال، أيضاً، إن القتل رسالة، ولفعلته ما يدعمها في النصوص التي يضعها في مرتبة متقدمة من القداسة. النصوص نفسها تدعم تدمير التراث الإنساني في متحف الموصل، باعتبارها تماثيل سبقنا الأولون إلى التخلص منها.

لكن، ما الرسالة من تدميرها، وإلى من توجه؟ هل إلى حمورابي وشرائعه التي سارت على هديها كل الأنظمة اللاحقة، وصولاً إلى الأنظمة القائمة حالياً في العالم، المؤمن والكافر؟ ربما. فلا مكان لأي شريعة أخرى، بالنسبة إلى هؤلاء، ولهذا هم “يستبسلون” في تدمير كل أثر يدل على أي وجود لحضارة أخرى، حتى وإن كانت سابقة لجميع الأديان المعروفة.

كان “الاستبسال” في التدمير واضحاً في الشريط المصور الذي أثار موجة من ردود الفعل المنددة، والمتسائلة عن الفكر الظلامي الذي يشرّع القضاء على إرث حضاري، عمره خمسة آلاف عام، في خمس دقائق. سؤال ربما من الممكن استيفاء إجابته من المجتمع العادي، غير الداعشي، في المنازل التي تربينا فيها. لنكن صريحين، كم من مرة سمعنا الحديث عن حرمة التشخيص، وحرمة وضع التماثيل، لأنها تشبّه بعبادة الأصنام.

كان هذا الكلام يدور في بيوت تحمل صفة “الاعتدال الديني”، ولا تمت بصلة، من قريب ومن بعيد، لأفكار التطرف، بل تستقي أفكارها من الشارع والمحيط والتقاليد التي اكتسبت، مع الوقت، صفة القداسة، وأخذت طابع الحلال والحرام. أحاديث البيوت هذه كانت البذرة، بالنسبة إلى بعض غير قليل، للذهاب أبعد في تطبيق ما نشأ عليه. وبالتالي، ليس غريباً أن نسمع تهليلاً وتكبيراً وسط مشاهد تدمير التماثيل والجداريات، وخصوصاً أننا سمعنا التهليل والتكبير نفسيهما لعمليات تدمير آلات موسيقية في مجتمعات إسلامية، من دون أن يثير الأمر أي استنكار رسمي، على الرغم من أن هذا تلقائياً يؤدي إلى ذاك.

ربما من الأجدر أن نتوقف عن سؤال: من أين جاء داعش؟ والكف عن ربط كل ما نراه منه بمؤامرات استخبارية عالمية. الاستخبارات قد لا تكون بعيدة تماماً، لكنها بالتأكيد لم تخلق الفكر المتطرف من عدم، بل رأته فقط ناضجاً بحاجة إلى القطاف، وهو ما كان.

من يذبح ويحرق البشر فلن يتوانى، بالتأكيد، عن تدمير الحجر، بغض النظر عما يحمله هذا الحجر من معان ورموز. هو ذبح من نوع جديد يفاجئنا به “داعش”، مرة أخرى، وربما من الأفضل أن نحضر أنفسنا لمزيد من المفاجآت، طالما أن الدولة “باقية وتتمدد”، والأنكى أنها تستقطب جنوداً وأنصاراً من الشرق والغرب، على حد سواء.

العربي الجديد – وطن اف ام

زر الذهاب إلى الأعلى