النقد الذي يوجه هذه الأيام (وهو محق في مجمله) للتيارات التي كانت تصنف مقاومة، بسبب محاربتها إسرائيل، بعد أن اصطفت في خندق الاستبداد، وطغت صفتها الطائفية على الصفة الوطنية، لا يجوز أن يخفي حقيقة الحاجة إلى المقاومة، إذ يجب الانتباه إلى عدم رمي الطفل مع سلته في نهر النقد الجاري، اليوم، على قدم وساق، للمقاومة ومدّعيها، لأنها (المقاومة) في نهاية المطاف، سلمية أم عسكرية، تبقى أبرز الأدوات الواجب امتلاكها، لمواجهة غطرسة المحتل، وجنون المستبد، في آن، فهي إحدى الوسائل الضاغطة لاستعادة الحقوق المسلوبة.
أول ما يجب الانتباه إليه، ألا يؤدي النقد إلى شيطنة فكرة المقاومة، وهو ينصب على الأطراف التي تتاجر بها، وتوظفها في سياق مشاريع تدمّرها، وتضعف ثقة الناس بها، بحيث تصبح أية مقاومة مرجومة، إذ يجب أن يتم النظر، بنزاهةٍ، لتاريخ هذا الفصيل أو ذاك، بنزاهةٍ، ولكن بصرامة نقدية حادة أيضاً لماضيه وحاضره في آن، أي عبر القول إن صفة المقاومة هي الغالبة في مرحلة ما، ولهذا له التقدير عليها، لكن صفة القتل والمساهمة في الحرب الأهلية، وتعزيز الطائفية، والاندراج في مشاريع غير وطنية، هي الغالبة في مرحلة لاحقة، ويجب أن يحاكم عليها أخلاقياً وسياسياً، وقضائياً إن أمكن، وأن الماضي الشريف لا يمنح صكوك غفران عن جرائم الحاضر، وهذا ينطبق على كل تاريخ المقاومة، منذ حركة فتح وحتى حزب الله وحركة حماس، مرورا بالمقاومة الوطنية اللبنانية التي تورّطت بعض قواها في الحرب الأهلية اللبنانية أيضا. ولكن، هل هذا الفصل ممكن؟
هذا ما يجب أن يكون لكي يكون واضحاً أن نقدنا تياراً ما ليس لأننا ضد المقاومة أولاً، بل لأنه هو من استبدل مقاومته بالتبعية والعمالة، ولكي تُزال صفة القداسة عن المقاومة ثانياً، فالمقاومون بشر يخطئون ويصيبون، وقد يصلون إلى حدود الجريمة والتحريض الطائفي.. كما يصلون إلى حدود الشهادة، ما يطرح سؤالاً آخر: هل يمكن لمن يغرق اليوم في الطائفية، ووحول الحروب الأهلية، أن يكون قد تبنى المقاومة سابقاً فكرة وهدفاً بشكل حقيقي، لكي يشكر عليها! ألم يكن الأمر أساساً ضمن أجندة لدول داعمة للمقاومة؟
هذا أمر قابل للجدل والنقد الذي يجب أن يعمل على تفكيك مسار المقاومة ضمن تاريخٍ ما، إذ نعتقد أنها جاءت في سياق تلاقي مصالح في لحظة ما، وهو أمر تحتاجه كل مقاومة في سياق حاجتها الدعم والاحتضان والمال، ويبقى الأمر متعلقاً بقدرة سياسة المقاومة على الاستفادة من مناخ دولي/ إقليمي، من دون أن تخسر صفتها الوطنية، أو مقاومتها، ومن دون أن تضطر لتجيير مقاومتها لصالح هذا المشروع أو ذاك، لأن هذا حين يحصل تسقط صفة المقاومة عنها، فهل كان كل من حزب الله وحركتي حماس والجهاد الإسلامي، منذ البداية، أدوات في المشروع الإيراني، وهي مندرجة، منذ اللحظة الأولى، فيه بكامل وعيها؟ الإجابة من الجهة الإيرانية واضحة، بأنها استخدمت المقاومة مدخلاً لها إلى العالم العربي، كما تستخدم الدين وسيلة للوصول إلى الشيعة العرب، لإلحاقهم بمشاريعها، في حين أننا، إذا أخذنا الأمر من زاوية الفصائل (حماس، حزب الله، الجهاد) قد يختلف الأمر، فلا شك في أن حماس بحاجة للسلاح والمال، لكي تستمر في مقاومتها، فهل إن قبلت بهذا الدعم تكون أداة إيرانية؟
وهل يختلف الأمر عند حزب الله عن حماس، كونه يعلن عن نفسه حزباً شيعياً، وبالتالي، هو شريك مع إيران في المشروع الطائفي الأكبر؟ هذه أسئلة يجب أن يعمل مبضع النقد المعرفي فيها اليوم، بعيداً عن توتر اللحظة الحالية، لأجل فكرة المقاومة بالدرجة الأولى، لأن ما يجري، اليوم، من شيطنة لفكرة المقاومة ككل، هو أمر خطير، ويجب الانتباه إليه جيداً، لأنها فكرة تحتاجها الشعوب في مواجهة الاحتلالات (الروسية والإسرائيلية) والاستبدادات والإمبرياليات التي تعمل لإعادة إنتاج الدكتاتوريات في لبوس جديد، فالمقاومة حاجة موضوعية، ويجب عدم حصرها بمقاومة العدو الإسرائيلي، وهي النقطة التي تسعى الدكتاتوريات والأحزاب التابعة لها إلى حصر فكرة المقاومة بها، ما يعطي السلاح قدسيةً ما، إذا رفع بوجه إسرائيل، في حين أنه يشيطن، إذا رفع بوجه المستبد.
وأكثر ما يثير الاستغراب في الحالة السورية تغييب المعارضة السورية إسرائيل وقضية الجولان في كل خطابها، ولا نعني بذلك الخطاب الإيديولوجي الرث، بل الخطاب السياسي الذي يجب أن يكون له قول في كل ما يخص البلد ومصيره، باعتبار أن كل معارضة هي مشروع سلطة قادمة، فماذا لو كانت الثورة السورية نفسها تحتاج هذا القول؟
تعاملت المعارضة، وجزء كبير من أطياف الثورة، مع حديث النظام عن إسرائيل ودورها في سورية على أنه بروباغندا، وهذا صحيح من جهة النظام، وخاطئ من جهة إسرائيل، لأنه إذا استبعدنا النظام وما قاله، لرأينا أن إسرائيل أحد أهم خصوم الثورة السورية، فآخر ما تريده إسرائيل دولة حرة ديمقراطية في سورية، وهو ما استغله النظام خير استغلال، لتعويم نفسه بوصفه حاميا لـ”أمن إسرائيل”، كما بشرنا مبكرا أحد أقطابه (رامي مخلوف)، من دون أن يتخلى عن اتهام معارضيه، على الدوام، بالعمالة لإسرائيل وتحقيق مخططاتها في سورية، بما يستوجب ضربهم وسحقهم.
ولم يكن النظام يفعل ذلك، لأنه يريد أن يتهم المعارضة، من باب تشويه السمعة وحسب، بل لأن لهذا الأمر فعله في وعي جمهور سوري تربى، منذ الطفولة، على عداء إسرائيل، ما يعني أن النظام كان يهدف من بروباغانداه هذه إلى شد هذه الجماهير إليه، ودفعها للقبول به من باب الوطنية المقاومة التي تدغدغ قطاعاً كبيراً من اليساريين والقوميين الذين تربوا على الإيديولوجية لا المعرفة. ومن هنا، نفهم مغزى الهجوم الذي شنه مبكراً الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، على الرئيس الأول للمجلس الوطني السوري، برهان غليون، حين تحدث لصحيفة “وول ستريت جورنال” (ديسمبر/ كانون أول2011) عن قطع علاقات سورية المستقبلية مع إيران، وأن “حزب الله لن يبقى كما هو”، وأن سورية ستبقى متمسكة بحقها في الجولان “عبر المفاوضات”، إذ اعتبر نصر الله أن المعارضة السورية قدّمت أوراق اعتمادها لإسرائيل، وبدأ خطاب النظام الإعلامي ومؤيديه يعمل بجهد للربط الدائم بين المعارضة وإسرائيل، وهو ما استمر عليه النظام السوري، إذ نقلت صحيفة الأخبار عن الدكتاتور قوله لزواره عام 2013: “بعد الغارة، بتنا مقتنعين بأننا نقاتل العدو الآن، نلاحق جنوده المنتشرين في بلادنا”.
أحدث عدم وجود قول للمعارضة في شأن قضية الجولان والمقاومة وإسرائيل فراغاً استغله النظام، ولا يزال، على الرغم من كل الثقوب التي تعتري نظريته عن المقاومة، إلا أن ضعف النظرية المعارضة هو ما يجعل “عملة” النظام قابلة للتداول. وعليه، فإن هزيمة النظام، هنا، تبدأ من تكوين الأيديولوجية المضادة (وليست كل أيديولوجيا شر مطلق) والحشد بناءً عليها.
ومن هنا، نفهم سر جذب النظام حزب الله المقاوم وسمير القنطار والجزائرية جميلة بوحيرد التي كرمتها “الممانعة”، فيما حزب الله يقاتل في سورية، فهو يريد أن يستخدم الرصيد الرمزي لهؤلاء عند الجمهور، ليعزّز رؤيته، ويسحب أكبر قطاع ممكن من الجمهور نحو إيديولوجيته، وهو ما تركته المعارضة يفعله بغباء منقطع النظير، وينطبق الأمر على الإرهاب والعلمانية والأسلمة وكل الأيديولوجيات التي يحتاجها، ويستند عليها، النظام.
بالعودة إلى المقاومة وما يخصها في سورية، نحن، اليوم، بأمس الحاجة لها، لأننا بتنا في مواجهة احتلالات واستبدادات وإمبرياليات وتنظيمات متعددة، بدءاً من الاستبداد السوري الذي لم يزل جاثماً، مروراً باحتلالات إسرائيل وحزب الله والمليشيات الطائفية وإيران وروسيا، وليس انتهاءً بتنظيمات داعش والنصرة، وكل الذين يعادون الدولة المدنية، بحدّها الأدنى.
إذا كانت التسوية السورية ستفرض على حزب الله وداعش والمليشيات الشيعية والتنظيمات الجهادية، وكل من تدعمه قطر والرياض وتركيا، الخروج من المعادلة السورية، انسحابا أو تصفية، فإن الروسي والإسرائيلي باقيان أبعد من ذلك، فهل فكر أحد بكيفية مقاومتهما؟
المصدر : العربي الجديد