أعلن مصطفى كمال أتاتورك، في العام 1924، إلغاء “الخلافة”، والتي كانت قد آلت إلى الدولة العثمانية، بعد أن فتح السلطان سليم مصر والشام، وسيطر على بلاد الحرمين الشريفين، عقب انتصاراته على سلاطين المماليك في موقعتي مرج دابق (أغسطس/ آب 1516)، والريدانية (يناير/ كانون الثاني 1517)، وانتهت بدخول السلطان سليم القاهرة، وإعدام آخر سلاطين المماليك، طومان باي، على باب زويلة.
أدرك السلطان العثماني سليم الأول عندما دخل القاهرة ما تمثله الخلافة الإسلامية من قيمة معنوية، وتأثيراً على وجدان المسلمين، فكان حريصاً على اصطحاب آخر خلفاء الدولة العباسية، المتوكل على الله، والذي كان يتخذ من القاهرة “عاصمة للخلافة” في كنف المماليك، معه إلى اسطنبول، ثم جعله يتنازل له عن الخلافة، ليصبح أول سلطان عثماني يحمل لقب خليفة المسلمين. واستمر سلاطين العثمانيين يحملون اللقب، وجعلوا من إسطنبول/ الأستانة عاصمةً لدولة الخلافة الإسلامية. واستمر هذا الحال حتى بعد انهيار الدولة العثمانية، وهزيمتها في الحرب العالمية الأولى، ووصول الأمر إلى احتلال أجزاء من الأراضى التركية نفسها. وعندما تمكّن مصطفى كمال أتاتورك من هزيمة القوات اليونانية التي دخلت الأراضي التركية، وتحول إلى الزعيم الحقيقي للبلاد، أجبر السلطان محمد السادس على التنازل إلى ولي العهد، السلطان عبد المجيد، في عام 1922، ثم ما لبث في العام التالي أن وقع اتفاقية لوزان التي تنازل فيها عن كل ممتلكات الخلافة العثمانية خارج تركيا، وجرّد السلطان عبد المجيد من السلطة، وأعلن الجمهورية التي تولى رئاستها، لكنه أبقى للسلطان عبد المجيد لقب “الخليفة” رمزاً دينياً. وفي العام التالي 1924، أعلن أتاتورك إلغاء الخلافة، ونفى آخر الخلفاء، عبد المجيد، وكل الأسرة العثمانية خارج البلاد، وصادر ممتلكاتهم.
وكان ذلك آخر عهد المسلمين بالخلافة، أو الفصل الأخير في قصة الخلافة، أو بالأحرى، قصة الدول التي حملت راية الخلافة الإسلامية، وحكمت باسمها منذ وفاة الرسول (ص) وقيام دولة الخلافة الراشدة، والتي تولاها أربعة من الصحابة الأجلاء، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. ثم جاء أول سقوط لدولة الخلافة، عقب أحداث الفتنة الكبرى المعروفة بين علي ومعاوية حول مقتل عثمان وقضية القصاص من القتلة، والتي انتهت بمقتل الإمام علي، وسقوط دولة الخلافة الراشدة التي أعقبها قيام دول كبرى، حملت راية الخلافة، بينما كانت، في حقيقة الأمر، نظماً ملكية وراثية، لكن صفة الخلافة أضفت عليها قدسيةً دينيةً لدى العامة، وروّجها شيوخ السلطان وحواريوه، كما هو الحال في كل عصرٍ وأوان، وهي دول الخلافة الأموية، والعباسية، والعثمانية، وكانت لكل منها فتوحات وإنجازات كبرى، لكنها سقطت، في نهاية الأمر، لأسبابٍ عديدة وعميقة، ليس هذا مجالها، منها ما هو راجع لتفكيك وصراعات داخلية، ومنها ما هو راجعٌ لتدخل قوى خارجية كانت ترى في دولة الخلافة تهديداً وجودياً لها، أو كلا الأمرين معاً.
ولقي سقوط الخلافة ارتياحاً عميقاً لدى قوى الغرب المسيحي عامة الذي لا ينسى أن المسلمين تحت راية الخلافة وصلوا إلى الأندلس، وجنوب فرنسا، وشرق أوروبا، والبلقان، ووسط آسيا، وبلاد الهند والسند، والأفغان. كما لقي سقوط الخلافة الارتياح نفسه لدى أباطرة الفرس الذين تراودهم دائماً أحلام الإمبراطورية، ويرون في دولة الخلافة التهديد الرئيسي لذلك الحلم. وترك سقوط الخلافة الإسلامية، بعد قرابة ثلاثة عشر قرناً من قيامها (من عام 632، وفاة الرسول، وبداية الخلافة الراشدة إلى عام 1924 إعلان أتاتورك إلغاء الخلافة) أثراً غائراً في نفوس عامة المسلمين شرقاً وغرباً، لكن حلم الخلافة بقي حياً في الوجدان الشعبي الإسلامي عامة، والعربي خاصة، فقد كانت فكرة الخلافة الإسلامية تمثل للعامة رمزاً للقوة والمنعة والعزة للإسلام والمسلمين.
منذ ذلك الوقت، وفكرة إحياء الخلافة الإسلامية بقيت ماثلةً في دعواتٍ عديدةٍ تحملها وتروّجها، لعل أبرزها دعوة “الإخوان المسلمين” التي أسّسها حسن البنا في مصر في 1928، بعد سنوات من سقوط الخلافة في اسطنبول، والتي ارتكزت على فكرة إحياء دولة الخلافة الإسلامية من خلال بناء الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم، وصولا إلى الدولة المسلمة التي تكون قادرة على قيادة كل العالم الإسلامي. لم يقتصر الأمر على جماعة الإخوان المسلمين في مصر، بل انتقل إلى امتداداتها في العالم العربي، وبعض الدول الإسلامية، كما أن الفكرة داعبت بعض الحكام العرب بشكلٍ مختلف، عبر تعلقهم بفكرة ولاية الأمر، وحمل بعضهم ألقاباً مثل خادم الحرمين الشريفين في المملكة السعودية، وأمير المؤمنين في المملكة المغربية، لكنها دعواتٌ لا ترقى إلى فكرة إحياء دولة الخلافة، بل تحرص على نفي تلك الفكرة، حتى لا تصطدم مع القوى العالمية المتربصة بالفكرة في حد ذاتها. ولكن الأخطر في أمر الخلافة الجماعات والتنظيمات الإسلامية الراديكالية “المتطرفة”، والتي جعلت من إقامة دولة الخلافة هدفاً أساسياً، بل واجباً شرعياً، كما حدث مع تنظيم القاعدة، وتحالفه مع حكم “طالبان” في أفغانستان التي أعلنت قيام إمارة إسلامية، واتخذ زعيمها المُلا عمر لقب أمير المؤمنين.
ومع انحسار فكرة القاعدة، تحت عنف الضربات والحصار والملاحقة، بعد أحداث”11سبتمبر” 2001 في الولايات المتحدة، بدأت تظهر حركات راديكالية مختلفة، تحت مسمياتٍ عدة، لكنها لم تكن بالقدر نفسه من التأثير الذي أحدثه تنظيم القاعدة، وكانت تتعامل معها الحكومات والنظم المختلفة والمتعاونة في إطار الحرب على الإرهاب، حتى جاءت النقلة النوعية في نشاط تلك الحركات، بظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، والذي حمل اسماً مختصراً “داعش”، وكانت الصدمة في يونيو/ حزيران 2014، عندما أعلن زعيم التنظيم، أبو بكر البغدادي، بعد الاستيلاء على مدينة الموصل، قيام دولة الخلافة الإسلامية، وأعلن نفسه خليفة للمسلمين، ودعا أتباع التنظيم في كل مكان إلى مبايعته.
أثار ذلك الإعلان ضجةً كبيرة في كل الأوساط. بادرت أميركا إلى الدعوة إلى إنشاء تحالف دولي لمحاربة تنظيم الدولة والقضاء عليه، باعتباره تنظيماً إرهابياً عالمياً، وسرعان ما ضم التحالف أكثر من 50 دولة، ومن ضمنها، بطبيعة الحال، دول عربية وإسلامية، لأن إحياء فكرة الخلافة الإسلامية، أو حتى التذكير بها، أكثر ما يزعج تلك النظم ويستنفرها، بما تمثله الفكرة من تهديدٍ لكياناتها وعروشها.
وبدأ التحالف يعمل على محورين. الأول، توجيه ضرباتٍ منسقةٍ جوية وبرية لقواعد التنظيم فى سورية والعراق. الثاني، التركيز على شيطنة التنظيم وحشد الرأي العام حول فكرة أنه تنظيم إرهابي يمارس أبشع عمليات القتل، والتهجير، والسبي، والتكفير لكل من يخالفه فكراً، وعقيدة، مع تهيئة الموقفين، الإقليمي والدولي، للقيام بعمليةٍ عسكريةٍ رئيسيةٍ للقضاء عليه.
وفي 17 من أكتوبر/ تشرين الأول 2016، أعلن رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، انطلاق الآلة العسكرية المنسقة التي ضمت، إلى جانب قوات الجيش العراقي النظامي، قوات الحشد الشعبي الشيعية، ودعمها ومستشاريها من الإيرانيين، وقوات البشمركة الكردية، ودعمها ومستشاريها من الأتراك، وقوات دعم نيراني فرنسية، وقوة جوية باسم التحالف الدولي، وذلك كله تدعمه قواتٌ خاصة، وعناصر معلوماتية، واستخباراتية، ولوجيستية، أميركية، مع غطاء من الترحيب والقبول، أو الصمت، الرسمي العربي، والإسلامي، وحملت العملية العسكرية اسم “تحرير الموصل”، ولا زالت العمليات العسكرية جارية، ولا أحد يعرف بالضبط متى وكيف سيتحقق هدفها، ولا ما هي الكلفة الحقيقية لتلك الحرب المفتوحة التي تنسقها، وتشرف عليها، القيادة الأميركية، فليس دخول الحرب مثل الخروج منها، خصوصاً في مثل تلك الأنواع من الحروب اللاتماثلية (Assymitrical).
والسؤال الأهم هو: هل سقوط داعش وتحريرالموصل، عندما يتم، يعني سقوط فكرة “الخلافة”، أو انكسارها؟ وهل الهدف الأساسي من العمليات هو كسر “داعش” والقضاء عليه، أم هو كسر فكرة “الخلافة الإسلامية” نفسها؟
المصدر : العربي الجديد