مقالات

حمزة المصطفى – “استثنائية” الاستبداد العربيّ

قبل أيام، وتحت وطأة الهجمة الإعلاميّة الشرسة التي تقودها وسائل إعلام خليجية، تعرف في المخيال الشعبي العربيّ بأنها منابر للثورات المضادة، كتب المفكر العربي، عزمي بشارة، في صفحته في “تويتر” جملة صغيرة ذات دلالات ومعان كبيرة، نصها: “لم يسبق أن خاضت القوى الديمقراطية في أي مكان نضالها بهذا العدد من الخصوم على هذا العدد من الجبهات السياسية والاجتماعية كما في العالم العربي”. تشرح هذه الكلمات حجم التحدّي التي تواجهه القوى الديمقراطية العربيّة في زمننا العربي الرديء، بعد تعثر الثورات العربية، حيث غدا المؤمنون بالثورات وآمال الشعوب بالحرية والتحرّر والديمقراطية مثل القابضين على الجمر، يتلقون الطعنات يمنةً وشمالًا من أنظمة الاستبداد وأذرعها الإعلامية الرخيصة، ومن الحركات التكفيرية والإرهابيين.

لكنها تشير أيضًا إلى مسألةٍ في غاية الأهمية، تتمثل في “خصوصية الاستبداد العربي”، وتمايزه البنيوي عن أنظمةٍ استبداديّةٍ أخرى، سبق لها أن قاومت التغيير، قبل أن تسلم بحتميته في نهاية المطاف، على غرار ما جرى في دول أميركا اللاتينية، وأوروبا الشرقية، وأفريقيا، وجنوب شرق آسيا.

أسيل حبر كثير في دراسة “الاستثناء العربيّ” في الديمقراطيّة، ذلك أن غياب الديمقراطيّة في العالم العربي كان ولا يزال حقيقة لا تحتاج إلى برهان، فغالبية الدول العربية تعد غير حرة باستثناء تونس (حرة)، والمغرب ولبنان (حرة جزئيًا) على ما يُظهر تقرير فريدوم هاوس لعام 2016، بل إن أربع دول عربية تقع في قائمة “أسوأ الأسوأ” إلى جانب كوريا الشمالية. كما تناول الباحثون، على اختلاف تخصصاتهم، عوامل ومتغيرات عديدة في تفسير الاستعصاء الديمقراطي عربيًا.

ركز بعضهم على العوامل الثقافية “الدينية”، ودورها في ترسيخ الطبيعة الأبوية للمجتمعات العربية، وتعزيز قيم السمع والطاعة، والحيلولة دون طغيان النزعات والقيم الفردية السائدة في الديمقراطية الغربيّة، وسلط آخرون الضوء على غياب المجتمع المدني، لكونه أحد أهم الروافع الأساسية في التحول الديمقراطي. في المقابل، وبعد عجز الأطروحات الثقافية عن تفسير مسار الانتقال الديمقراطي في دول إسلاميةٍ، مثل إندونيسيا، وماليزيا، وتركيا، وألبانيا، انتقلت دراسات غربية، كما الحال مع دراسة لاري دايموند 2010 “لماذا لا توجد ديمقراطيات عربية” إلى دراسة عوامل أخرى، منها تأثير هيكلية النظم الاقتصاديّة التي تجعل نحو 11 دولة عربية في خانة “الدول الريعية”، بحيث تقدّم الخدمات والرعاية لمواطنيها، ولا تفرض الضرائب عليهم مقابل الولاء وعدم التمثيل، الأمر الذي يعيق تقدم الديمقراطية، استنادًا إلى المبدأ الغربي الشهير “لا ضرائب بدون تمثيل”. أكثر من ذلك، حاول باحثون حل لغز “الاستثنائية العربيّة” في دراسة متغيرات ثانويّة، مثل البعد عن محيط جغرافي ديمقراطي، أو أثر القوى الإقليمية والدوليّة، علّهم يجدون ضالتهم في تفسير (وتبرير) تأخر “الدمقرطة” في طرق أبواب الدول العربية.

بنظرة سريعة، نجد أن معظم الأدبيات السابقة قد عنيت بدراسة المجتمعات أكثر من اهتمامها بدراسة الأنظمة، انطلاقًا من قناعة ساذجة، في بعض الأحيان، تفترض علاقة طردية في جميع الأوقات ما بين “التعبئة الشعبية – Mobilization” و”التحول – Transition”. في ضوء ذلك، لم تستطع أغلبية هذه الدراسات التنبؤ بالثورات العربيّة غداة انطلاقتها عام 2011، وفقدت نتائجها السابقة أي قيمة تفسيريّة مضافة في دراسة الواقع العربي، ما دفع عبد الوهاب الأفندي إلى وصف منهجها بـ”حضور البصر وغياب البصيرة”، وذلك في مراجعته الشاملة للأدبيات الغربية عن التحول الديمقراطي، والمنشورة في العدد 18 من مجلة سياسات عربية التي يصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

على الضفة المقابلة، نادرة هي الدراسات التي عنيت بتفكيك طبيعة الأنظمة العربيّة باعتبارها العامل الرئيس في إدامة “الاستثناء العربيّ”. وبرأينا، لا تزال دراسة إيفا بيلين الصادرة عام 2004 “متانة السلطوية في الشرق الأوسط” تأسيسيةً ليس في تفسير بقاء الأنظمة الاستبدادية في المنطقة العربية، وإنما في شرح أسباب تعثر الثورات العربيّة أيضًا، إذ اعتبرت بيلين أن نجاح ثورة ضد نظام ما لا يرتبط بالسخط الاجتماعي، وإنما بقوة جهاز الدولة القمعي، وتماسكه وفاعليته في صدّ المعارضين، فللجهاز القمعي في الدول العربية خصوصيته التي تميزه عن غيره في دول أخرى، وتتجلى هذه الخصوصية في شبكاته الزبونية والقرابية (القبيلة، الطائفة، العائلة، الجهة، المنطقة.. إلخ) التي تستخدم لشراء الولاءات من جهة، وتأمين ظهير شعبيّ يساعد الأنظمة التسلطية العربية في أزماتها المجتمعية، وكذلك الحال بالنسبة إلى تمويله الكبير وتشابكاته الدوليّة، بما يجعله متماهيا تمامًا مع النظام السياسي الذي يحتكر الدولة، ويختصر المجتمع، كما يوضح عزمي بشارة في عديد من كتبه القديمة والجديدة. أضف إلى ذلك، تنبه باحثين، في السنوات الأخيرة، إلى نقطة جوهرية، تتعلق بخصوصية الاستبداد العربي التي تجعله “استثناءً” مما سواه. وتأتي هذه الخصوصية من طبيعة نشأة الدولة العربية، وسياق تبلورها، وخبرة الاستبداد الطويلة، والنزعة السادية الوحشية للحكام، وتجرّؤهم المادي والمعنوي على فعل كل ما من شأنه ترسيخ بقائهم في السلطة.

الوقوف على خصوصية الاستبداد العربي و”استثنائيته” قد يقدّم لنا أجوبة مقنعة عن سلوك النظام السوري في تدمير سورية الذي تجاوز في قمعه نظام فرانكو في إسبانيا، وحكم الضباط في الأرجنتين، ومجازر رواندا في أفريقيا، كما يفسر لنا صلف النظام المصري وجبروته في التعامل مع معارضيه في مقابل خنوعه التام للقوى الإقليمية والدولية، بما يفوق ديكتاتور تشيلي، أوغستو بينوشيه. أضف إلى ذلك، اتضح جليًا بعض ما نعيشه حاليا من هوس بعض الدول الغنية في صرف الأموال وشراء الذمم، واستئجار الكتّاب، وإقامة تحالفاتٍ واضحةٍ وصريحةٍ مع إسرائيل لا لدرء تهديد أمني أو سياسي قائم، بل إمعانًا في جبروت الوهم، المرتكز حاليًا على معادلة بسيطة ثنائية الطرف؛ أن تكون تابعًا، أو فأنت إرهابيّ.

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى