مقالات

د. مثنى عبد الله – دولة اسمها «قناة الجزيرة»

هل حقا يمكن أن ترتعد فرائص دول من قناة تلفزيونية فضائية؟ أهي قناة تلفزيونية أم دولة؟ وكيف لنا أن نُصدّق بأن دولة مثل مصر يشعر جنرالها الأول بأن كرسيه بات مترنحا بفعل التغطية الإعلامية لقناة الجزيرة؟ كيف لنا أن نتخيل دولة مثل الإمارات العربية المتحدة صاحبة حضارة أعلى برج في العالم، أن تخاف من تأثير قناة؟ بل كيف يمكن لنا أن نحلم مجرد حلم بأن السعودية زعيمة الامتين العربية والاسلامية، وصاحبة أكبر احتياط وتصدير نفطي، يشعر صاحب القرار السياسي فيها بأنها تهُز عرشه؟

ومن زاوية أخرى دعونا نسأل أيهما الأكثر أهمية، أن نتمسك بمجلس التعاون الخليجي، الذي لم يستطع خلال ستة وثلاثين عاما من أن يوحّد العملة الخليجية، أو يوحّد السياسة الخارجية لدوله، أو يُنشئ سوقا مشتركة على غرار السوق الاوروبية المشتركة، أو يُصدر هوية موحدة وجواز سفر واحد لمواطنيه؟ أم أن نتمسك بقناة فضائية أخبارية ساهمت على مدى عقدين من الزمن، من إعادة تشكيل الوعي العربي، والقضاء على أمية الوعي السياسي، ورفعت الغطاء عن أنظمة زائفة؟ 

هذه وتلك هي أسئلة الشارع العربي اليوم، الذي بات مصدوما من شروط أربع دول عربية لرفع الحصار عن شعبنا العربي في قطر، التي كان أولها وأهمها في أجنداتهم هو إغلاق شبكة قناة الجزيرة، وكل القنوات الأخرى والمنصات الإعلامية الإلكترونية التي تسير على خطى الجزيرة. لكن العجب الذي يستولي على الرأي العام العربي من طبيعة هذه الشروط، سرعان ما يذوي ويذوب، حين نتمعن في قراءة الدور الذي مارسته دول الحصار على مدى عقود من الزمن، فلقد ساهمت بعملية التفكك الذي تعرض له الوعي العربي، وكانت لها اليد الطولى في تراجع منسوب الحصانة الوطنية بشكل مخيف، التي هي أحد أعمدة المشروع السياسي الامريكي في المنطقة، بل هي نفسها من ساهمت بأموالها وقواها الناعمة والصلبة في إقفال كل الملاذات الآمنة لاي خطاب وطني، ولاية محاولة لخلق وعي عربي، واجتهدت في ملاحقة كل ذلك، ودفعت كل جهة تولت هذا الموضوع إلى مرحلة التلاشي والانقراض.

لقد أعمت الاجندات السياسية لدول الحصار وبشكل متعمد بصر وبصيرة الكثير من نخبنا العربية، ومن عامة الناس كذلك، وصرفت اهتماماتهم عن الجوهري من القضايا العربية والإسلامية، وأفقدتهم مبررات وجود الهوية العربية والأمن القومي العربي، بفعل قوة الابهار المزيف في مشاريعها الإعلامية المستندة إلى التمويل الكبير والتخطيط المدعوم بإرادات أجنبية، حيث حاولت احتكار الرأي ومارست حصارا معلوماتيا مهولا ضد حرية الرأي، وضد كل فكرة خلاقة مبدعة لخلق ذاكرة جديدة ووعي وإدراك مسؤول، وكان الهدف من وراء كل ذلك خلق إنسان عربي جديد بذاكرة مثقوبة، تتساقط منها كل القضايا المصيرية بسرعة فائقة، وبقيم مغايرة بعيدة عن القيم الرمزية الموروثة التي يعتز بها كل شعب، وزاوية نظر منحرفة لا ترى القضايا بأبعادها الحقيقية، ولا تهتم بالاساسيات، إلى حد العمى في الرؤية والرؤيا، حتى تغوّل الخراب في الوعي العربي، ووصل إلى جوهر وهيكل البناء الداخلي للوطن العربي بفعل هذه الممارسات. 

بينما حرصت قناة «الجزيرة» ومنذ انطلاقتها على صياغة سياسة جديدة في تحصين الوعي العربي بمرحلة أرقى من غيرها، فكان أن أخذتها هذه الاستراتيجية بعيدا عن التواجد داخل الاطر والممارسات والبرامج التي سجنت قنوات كثيرة نفسها فيها، حيث كانت واعية جدا لحقيقة، أن تبني الرأي الواحد سيجبرها عاجلا أم أجلا إلى الاصطفاف في طابور القنوات العربية الاخرى، التي تأكل من عقل الانسان العربي، ثم تنعزل رويدا رويدا حتى تصبح طرفا مراقبا وليس صانعا للوعي ومشاركا في الاحداث، لذا كان استثمارها في الوعي طريقا سهلا لها للولوج إلى كل بيت وحارة ومدينة، كما قادها هذا الاستثمار أيضا إلى التعرف عن كثب على المعلن والمستور مما يجري في مجتمعاتنا العربية، وساعدها على قراءة التفاعلات الدولية والاقليمية المتداخلة في مشهدنا العربي.

نعم لقد أحرجت قناة «الجزيرة» الاخرين، دولا وأنظمة ومشاريع سياسية وجهات نافذة في السلطة وما تحت السلطة، بسبب مهنيتها وتقنيتها وعلميتها، وأسس الاسناد الثقافي والحضاري لديها، الذي اعتمدته في إعادة تشكيل الوعي العربي، فكان من الطبيعي لهذا التيار أن يحدث شرخا كبيرا بين كل هذه الاطر النمطية البالية والجمهور العربي، لان خط سيرها كان مدفوعا بالخوف، ليس على البناء المادي لمجتمعاتنا العربية وللانسان فيها، بل على بنى هذا الانسان وقيم المجتمع ومسلماته الروحية، والومضة المعنوية التي يمثلها الوطن في الضمير العربي. وهذه صياغة جديدة لم يسبقها اليها أحد من قبل، حيث قوانينها الخاصة وخطوط مساراتها، التي بلغت مرحلة راقية تحلم أن تصل اليها أية قناة أخبارية. كما رفضت سياسة عكس الوعي والرأي المعطوب، والاستخدام المتكرر لأدوات التحليل السياسي نفسها التي ساهمت في خلق حالة التخدير للعقل العربي. كما راهنت على حيوية القيم التي لا يمكن أن تموت في شعب عريق، وآمنت بالعقل الذي لا يمكن أن تسجنه أية قوة كونية، كما يقول غاندي. 

كذلك ركز مشروعها على الكفاح من أجل أن تبقى القيم النبيلة حية في النفوس، وأن تبقى الدماء النقية تغذي العقول، وأن تستمر مقاومة الهيمنة على مفاهيمنا وقيمنا، بالايمان العميق بأن المحطات المضيئة في تاريخنا أساسية وليست طارئة.

لقد كانت قناة «الجزيرة» تيارا جارفا في منطقة ضغط واطئ، جاء بكل شيء مختلف عما سبقها من قنوات وأحزاب وحركات وأنظمة سياسية، كلها كانت في حلف واحد، لخلق حالة التلقي السلبي وليس التفاعلي لدى الانسان العربي. وقد رفضت الصمت والوقوف في طابور الانتظار لمعرفة مواقف الاخرين مما يجري في وطننا العربي، وآمنت بأن القلة قادرة على التصدي بطاقة الامة، وأن تصديها لابد أن يرفع صوت الحق بفعل الارادة الجمعية، وإذا كانت وسائل الاعلام الاخرى في الوطن العربي أو الموجه له، قد استخدمت النمط الاستفزازي للعواطف والغرائز في إيصال رسائلها، فإن مشروع قناة الجزيرة كان قد استخدم النمط الابتكاري القائم على تفعيل القيم والمبادئ العليا في المجتمع، من خلال رفع وتيرة التحدي الشعبي إلى الحد الذي يجعلها تبدأ بإدراك ما تحتاجه لتحصل عليه.

وعلى الرغم من أن هذه المهمة ليست يسيرة، لكن صانع القرار في هذه المحطة كان على إدراك تام من أن التحدي غير المتكافئ يحمل شحنة بناءة لاحياء النفوس والعقول، ويضع حدا للمظالم ويجعل الكرامة خبزا يوميا. فكان إنجازها التاريخي هو مشروعها الذي مثل ثقافة النظرة الفاحصة وسط عمى الكثير من البصائر، وكان كلمة حضارية ارتقت إلى مستوى التحدي في زمن انبطاح الاعلام لاصحاب المال السياسي، كما كانت عقلا مدببا لحماية الوعي العربي، فتحققت بهذا المشروع هزيمة كبرى لمنصات إعلامية ذيلية، ولمشاريع أنظمة كبرى في المنطقة راحت تطالب بإغلاقها شرطا لرفع الحصار عن قطر، وكأنها تواجه دولة وليست قناة تلفزيونية.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى