مقالات

محمود الريماوي- ميركل.. المرأة الأقوى سيدة عادية

شهدت الانتخابات التشريعية في ألمانيا، 24 سبتمبر/ أيلول الماضي، ظاهرتين لافتتين. الأولى صعود حزب البديل من أجل ألمانيا إلى المركز الثالث اليميني الشعبوي باحتلاله 88 مقعدا في البرلمان ( البوندستاغ) من أصل نحو 700 مقعد (النظام الانتخابي الألماني يجعل عدد المقاعد متحركا).. فيما أخفق هذا الحزب في انتخابات 2013 في تجاوز عتبة الخمسة بالمئة الإلزامية من أصوات المقترعين.

وهي نتيجة قوية لهذا الحزب الذي لم يمض على نشوئه سوى أربع سنوات، ويُنظر إليه حزبا بالغ التطرّف يبني سياسته على معاداة اللاجئين، والاستثمار السياسي الانتخابي في الإسلاموفوبيا، وليس على برنامج داخلي، أو أوروبي (يعادي الحزب الاتحاد الأوروبي كما هو حال بقية أحزاب اليمين المتطرّف وتياراته في أوروبا). وفي بلد مثل ألمانيا، ينوء تحت عقدة النازية والهولوكوست، فإن النزوع العنصري يوقظ ذكرياتٍ مريرة تتصدرها الحرب الكونية الثانية التي تقوّضت فيها البلاد، بسبب جموح أدولف هتلر.

ومع ذلك، تمكّن هذا الحزب من شد عصب القوميين المتشددين والانعزاليين المتطرّفين والنازيين الجدد وحشدهم، والتعبير الحصري عنهم، بما جعله يحقق هذه النتيجة الصادمة، لكن المتوقعة، فمشكلة اللاجئين، وجلّهم من الشرق الأوسط وأكثريتهم من السوريين، لم تجد حلاً لها، وهي غائبة عن جدول المفاوضات في أستانة وجنيف، بفضل “نزعة إنسانية فائضة” عند رعاة المفاوضات هنا وهناك.

أما الظاهرة الثانية فهي تراجع الحزب الديمقراطي المسيحي (المؤتلف مع الحزب المسيحي الاجتماعي) بنسبة 8,5% مع تصدّر هذا الثنائي للنتائج بنسبة 33%، فيما احتفظ الاشتراكيون الديمقراطيون بالمركز الثاني، ولكن بتراجع يزيد قليلا عن 5%. ونسبة التراجع لهذين الفريقين هي تقريبا نفسها النسبة التي فاز بها القوميون المتطرّفون.

وضمن هذه النتيجة، جرى التجديد للمستشارة أنجيلا ميركل للمرة الرابعة. ويشكل هذا التجديد، بحد ذاته، ظاهرة قائمة بذاتها. فميركل (63 عاما) تتفوق بهذا على بقية قادة الأحزاب الألمانية في اليمين واليسار والوسط منذ 2005، وبغير انقطاع. على الرغم من أنها لا تحوز على الصفات التقليدية للقادة التاريخيين، إذ لا تحمل مشروعا داخلياً على درجةٍ كبيرة من الطموح، ولا هي زعيمة أوروبية يجد فيها الرأي العام الأوروبي ممثلا له بصورة من الصور، على الرغم من نزعتها القارّية الثابتة. ليست شعبوية ولا نخبوية. ولا تتمتع ببلاغة سياسية، تجعل عبارة ما لها تجري مجرى الشعار أو الأمثولة.

وأبعد من ذلك، فإنها ليست بالكاريزما نفسها. ونزعتها السياسية أقرب إلى المحافظة، وحتى في المقاييس النسائية، فإنها ليست على درجةٍ من الأناقة في اختيار الملابس وبقية اللوازم.. إنها باختصار سيدة عادية كالسيدات اللواتي يتريّضن في الحدائق العامة، أو المنشدات المؤمنات مع الجوقة في الكنائس، أو من يتناولن الحلوى بحذر مع القهوة في مقهى جانبي هادىء.

وبفوزها المتكرر المستحق، جعلتها مجلة فوربيس، عشر مرات، ثاني السياسيين الأقوياء في العالم (بعد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، صاحب الأفضال على المدنيين في أوكرانيا وسورية، وأخيرا دفاع حكومته عن نظام ميانمار أمام الحملة عليه تنديدا بمحنة الروهينغا الرهيبة). وللمفارقة، استمدت ميركل قوتها من كونها سيدةً في موقع القيادة، حافظت على سماتها امرأة عادية، ونجحت في نزع هالة السحر عن نموذج القادة، وبرهنت على أن هذه الهالة ليست شرطاً شارطاً لتبوّء مركز قيادي، بما ينطوي عليه ذلك من رسالةٍ مفادها أن مراكز القيادة تتسع لكل مواطن عادي كفؤ ومثابر، ومن دون حاجة لمواهب فطرية خارقة، أو سحر خاص.

تمتعت هذه السيدة بما سمي بحق “سلطة أخلاقية”، منذ اتخذت موقفا ينصف اللاجئين، ويملي استقبالهم ورعايتهم، ولا يحمّلهم مسؤولية لجوئهم، كما فعل سياسيون أفذاذ كُثر في زماننا. ولئن تموّجت مواقف المستشارة تحت ضغط القوى الداخلية التي لا تقتصر على اليمين الشعبوي، وبتأثير عملياتٍ إرهابية مشينة، وقعت داخل ألمانيا، إلا أن موقفها ظل يتسم بنزعةٍ منصفة وإيجابية تجاه اللاجئين ومحنتهم.

وفي ضوء هذا الموقف، تبدّت مواقف الآخرين في أوروبا بالذات تحت ضوءٍ ساطع أطلقته هذه السيدة الشجاعة، وبما أسهم في صياغة القسم الأكبر من مواقف المحافظين في بلدها، وعلى الأقل ضمن الحزبيين المسيحيين. لقد أطلقت هذه الرؤية بعيدا عن الخطابة والمساجلات، وبغير استعراض، بل بروحٍ عمليةٍ تستند إلى الدستور والقيم المدنية. وقد أخذ عليها بعض السياسيين، ومن موقع الاحترام، موقف الصمت في الانتخابات تجاه القضايا الحساسة.

ففي رأي وزير الخارجية الأسبق، يوشكا فيشر (الجزيرة نت) فإن “أكبر خطأ ارتكبته ميركل في هذه الانتخابات هو الاعتماد على الاستراتيجية الدفاعية نفسها التي استخدمتها في انتخابات العام 2013، عندما فازت بشكل مدوِ، فقد ظنت أن تجنّب الجدل والحفاظ على الهدوء بشأن القضايا الرئيسية التي تواجه أوروبا سينجح مرة أخرى. وبينما ظلت صامتةً، شغل الشعبويون، مثل رئيس حزب البديل، ألكسندر غولاند، موجات الأثير بالنداءات الصاخبة للحنين العرقي والقومي”.

وهذه وجهة نظر جديرة بالاعتبار، فالبديل عن الخطابة والتجييش والشحن ليس الصمت، فالخطابة تنجح أحيانا في تحقيق أهداف أصحابها، ولو بنسبة 13% من الأصوات! وقد جرى التمهيد لها بفوز المتطرّفين في انتخابات تشريعية سابقة في ثلاث ولايات. والتحدّي أمام ميركل، كما بقية الأحزاب (الاشتراكيون الديمقرطيون خصوصا: 134 مقعداً) هو في البرهنة على الاستعداد للتكتل في مواجهة النازيين الجدد، وتغليب الخير العام على التنافسات الحزبية. وفي رأي مجلة ديرشبيغل الشهيرة، على موقعها الإلكتروني، فإن البرلمانيين ذوي النزعة النازية “سيملأون البرلمان بالضجيج، بتخطي الحدود والاستفزازات والفضائح المبرمجة، فحزب البديل سيركز كل شيء على دخوله البرلمان بعد أربع سنوات، والشرط لحدوث ذلك وجود مجتمع منقسم”.

وتبعاً لهذا الرأي الوجيه، فإن ميركل مدعوة إلى تغيير عاداتها (بعد أن ذاقت فوزا “بطعم الهزيمة” في الانتخابات)، وليس من أجل التجديد لها مرة خامسة، بل لمواجهة أشباح الماضي وفق “ديرشبيغل”، وقد اقتربت هذه من المسرح السياسي مرة أخرى. والأهم أن مكانة ألمانيا وازدهارها سيكونان مهدّدين، بما يملي تفعيل السلطة الأخلاقية التي تتمتع بها ميركل وشحنها بفاعلية سياسية، في اتجاه من يهدّدون بلادها، وصورة ألمانيا من الداخل.

المصدر: العربي الجديد

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى