مقالات

د. مثنى عبد الله – رمزية الحج ومحاولات تسييسه

في خضم ولوج السياسة إلى كل حقل ومحفل، غفل البعض من الساسة عن المعاني المقدسة للشعائر الدينية، وتدبر معانيها والتفتيش عن مغزاها. ومع أن الحج هو الشعيرة الأكثر أهمية في تجليات وحدة الأمة، حيث يقصد المسلمون بالملايين مكانا واحدا، ما يشكل مؤتمرا سنويا حاشدا لهم، ويضمن بقاء الأمة واستمرار وحدتها.

يتكرر بروز موسم الحج إلى الواجهة كأداة سياسية في كل عام، وشكل من أشكال الصراع الإقليمي الحاد في المنطقة. فمنذ قيام الثورة في إيران عام 1979 وحتى اليوم، يستخدم النظام الإيراني هذه الشعيرة الدينية كورقة سياسية للتشهير بالانظمة السياسية الاخرى في المنطقة، ويجعل الحج منصة يطرح من خلالها رؤيته السياسية والطائفية في مظاهرات صاخبة يقوم بها أتباعه، إلى الحد الذي تطور إلى صدام مسلح مع قوات الأمن السعودية عام 1988. كما استخدمت هذه العبادة كحلقة في ملفات سياسية متأزمة بين دول المنطقة، شملت العراق وسوريا وليبيا وقطر. ما دعا الآخرين لطرح حلول سياسية لقضية الحج، التي هي قضية دينية في الاساس، ولاعلاقة لها بالسياسة، لكن إقحامه في الازمات بين الأنظمة السياسية، جعل البعض يفتش عن مخرج بحل سياسي.

فكان أن سمعنا عن مقترح تدويل الحرمين المقدسين، عندما خرج الحجاج الإيرانيون في مظاهرة ما يسمى (البراءة من المشركين)، رافعين شعارات مؤيدة للخميني. كما دعا الزعيم الليبي السابق معمر القذافي إلى إيجاد ما يمكن أن يطلق عليه (فاتيكان إسلامي) في مكة والمدينة، حيث يتم وضع الأراضي الإسلامية المقدسة تحت وصاية هيئة إسلامية، تكون هي المشرفة والوصية على البقاع المقدسة. أيضا نحا العراق هذا المنحى في عهدي رئيس الوزراء إبراهيم الجعفري ونوري المالكي السابقين، حيث دعا كل منهما إلى التدويل وكسر هيمنة الإشراف السعودي على الاماكن المقدسة، حتى أن بعض الأطراف ادعت أن الحل الوحيد هو تشكيل هيئة إسلامية تحت إشراف منظمة التعاون الاسلامي تشرف على مناسك الحج.

إن كل هذه المحاولات باءت بالفشل بسبب عدم جديتها أولا، وأنها لم تكن سوى مناكفات سياسية، هدفها إحراج الطرف الآخر ثانيا. كما أن القائمين على هذه الدعوات يتغافلون عن نقطة جوهرية وهي، أن الاماكن المقدسة تقع ضمن الجغرافيا المعروفة بالمملكة السعودية، وأن موسم الحج أحد العوامل الاقتصادية الفاعلة في الاقتصاد السعودي، ويدر مليارات الدولارات، فهو يمثل حوالي 3 في المئة من الناتج القومي السعودي. وقد قدرت إيرادات موسم الحج لعام 2016 بنحو 8.4 مليار دولار. ويتوقع ارتفاع عوائد الحج والعمرة بحلول عام 2020 إلى أكثر من 12.9 مليار دولار بعد انتهاء مشاريع توسعة المشاعر المقدسة. كما أنه القوة الناعمة التي تستخدمها السعودية في التوظيف السياسي في علاقاتها الخارجية، خاصة مع الدول الإسلامية، وبذلك يصبح من المستحيل نزع هذا المحفل من بين يديها ووضعه تحت سلطة أخرى.

ومع ذلك بقي الوضع كما هو عليه، فلا يكاد يمر موسم حج إلا وأطلت السياسة برأسها فيه، وها هو اليوم يتجدد الحديث السياسي في الشأن الديني بين السعودية وقطر، بعد أن عصفت الأزمة الخليجية بالمنطقة، وألقت بظلالها على موسم الحج الماضي والحالي.
فقد اتهمت الدوحة الرياض بمنع المواطنين القطريين من أداء فريضة الحج، بعد أن أغلقت نظاما إلكترونيا للحصول على التصاريح، بالاضافة إلى إغلاق حدودها بوجه الحجاج، فيما نفت السعودية هذه الاتهامات، مشيرة إلى أنه بإمكان الحجاج القطريين القدوم عن طريق أي شركة طيران، عدا الخطوط الجوية القطرية، التي أصرت على منعها من دخول المجال الجوي السعودي، حتى لو كان لأغراض دينية تشمل نقل حجاج بيت الله الحرام. وبحسب لجنة حقوق الانسان القطرية، فإنه كان من المفترض أن يؤدي نحو 2400 مواطن قطري مناسك الحج هذا العام، في حين لم يصل إلى الديار المقدسة سوى سبعين مواطنا. وكان من الأجدر بالسلطات السعودية في أضعف الايمان معاملة القطريين مثل معاملة الايرانيين، التي سمحت لهم بالحصول على تأشيرات الحج عبر شبكة الإنترنت، لعدم وجود قنصلية سعودية في طهران تمنح التأشيرات لهم. كما أنها سمحت للطيران الايراني بنقل الحجاج إلى السعودية، وكذلك لممثلين قنصليين من إيران بالتواجد على أراضي المملكة، لإدارة شؤون حجاجهم.

إن محاولات تسييس الحج أمر مرفوض ولا يقره شرع أو دين، لأنه شعيرة دينية يجب أن تبقى بمنأى عن أي تجاذبات سياسية. كما أنه يمثل ركنا من أركان الدين الحنيف، وفيه إشباع لرغبة روحانية مرتبطة بالشعائر المقدسة. كما أن تسييسه يفتح الباب واسعا أمام الكثير من الأصوات لاستنكار هذا الفعل، سواء كانوا مواطنين عربا أو مسلمين وحتى أجانب. كان آخرها الندوة التي أقيمت في البرلمان البريطاني وحضرها حقوقيون وقانونيون بريطانيون، دعوا السعودية إلى التوقف عن هذا الفعل، وفتح المجال أمام كل رعايا الدول لإتمام الحج أو العمرة، بغض النظر عن طبيعة العلاقات بينها وبين البلدان التي ينتمي إليها الحجاج.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى