وهم نصر النظام السوري مثل وهم هزيمة الثورة، أو العكس في مراحل مختلفة سابقة من السنوات الست في عمر الثورة السورية التي تتجه لإكمال عامها السابع، لأن الثابت في الثلاث سنوات الأخيرة، على الأقل، هو عدم هزيمة تنظيم داعش وأخواته.
وبطريقة ما، هنالك علاقة سببية بين الطرفين، بين نصر طرف وهزيمة آخر، أساسها داعش الذي يؤدي وظيفة “رمانة القبان”، وينوبُ عن طرف النظام في استنزاف الفصائل المعارضة منذ قدومه إلى سوريا في صيف 2013.
الآن، وبعد انفضاض اجتماع أستانة والاتفاق على تشكيل منطقة خفض توتر في إدلب، تبدو خارطة المنطقة على شكل ثلاثة مقاطع طولية من الشمال إلى الجنوب، تشمل مناطق من إدلب وغرب حلب وشمال حماة.
منطقة واحدة بإجراءات مختلفة حسب اللون، زرقاء وحمراء وبيضاء، ربما وفق درجة حرارة السلاح الذي سيستخدم فيها من أجل كسر شوكة جبهة النصرة التي عادت إلى أصلها الأول بعد انشقاقات من داخل الجبهة، ومن داخل هيئة تحرير الشام التي تكاد تكون تفككت تماماً عشية انعقاد أستانة السادسة.
التحديد الجغرافي الدقيق، غرب خط قطار الحجاز: دمشق – حلب، والطريق الدولية بين العاصمتين من جهة، والحدود التركية من جهة أخرى، قد يستحق تلك الصفة إذا كانت الأطراف الضامنة، روسيا وتركيا وإيران، ضامنة فعلا. لكن المراقبين الـ500 من كل طرف منحازون سلفا إلى مصالحهم، كون روسيا وإيران منحازتين إلى النظام الأسدي، بينما لا يُمكن ضمان انحياز تركيا إلى المعارضة.
أما المنشقون عن هيئة تحرير الشام ضد ما تبقى من جبهة النصرة، فيمكن التخمين أن دورهم سيكون داعما لفصائل “أستانة 6”، إلا إذا آلت نتائج أستانة إلى ما يشبه مصالحات النظام التي نفذها في الوعر ومخيم اليرموك وبرزة والتل وداريا وغيرها.
وإذا لم يصدق هذا التخمين ستنشب معارك بين كل هؤلاء وجبهة النصرة، ما قد يعني أن ساعة النصرة الأخيرة ستبدأ قريباً، بعد أن استعْدَت “الجبهة” كل الأطراف ضدها، بمن فيهم تركيا.
لكننا لا نعرف حتى اليوم المخفي في اتفاق أستانة، في ما يتعلق بالدور التركي، على اعتبار أن الشمال الغربي لمنطقة خفض التوتر يقع في لواء إسكندرون، وغربها يقع في شمال اللاذقية، أي في جبل التركمان، وجبل الأكراد، وهي منـاطق هادئة هذه السنة.
قد تكون “جائزة تركيا” هي عفرين ذات الأغلبية الكردية والمسيطر عليها من قبل قوات حماية الشعب الكردية، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي. وعلى اعتبار أن عمق منطقة خفض التوتر لا يمكن مراقبته إلا جويا من قبل روسيا، ستتركز جهود تركيا على ضبط حدودها لإحكام الحصار على جبهة النصرة بين خط القطار والطريق الدولية، قبل تفرغ القوات التركية لتحجيم القوة الكردية في المنطقة جنوب الحدود الدولية، والمحاذية للواء إسكندرون.
إن حدث هذا كما خططت له روسيا وحلفاؤها، وتوافقت معهم فصائل أستانة، ستخوض جبهة النصرة معركة حياة أو موت، على عكس ما فعل التحالف ضد داعش، والنظام، وروسيا، في خصوص قتال داعش، حيث منحه هؤلاء، ولعل الجغرافيا من منحته ذلك، فرصة الانتقال من منطقة إلى أخرى بعد كل معركة ضده في المدن التي كان يسيطر عليها، من عين العرب – كوباني، إلى تل أبيض، ثم منبج، والرقة الآن، ودير الزور لاحقاً، مروراً بالموصل والمناطق التابعة لها في العراق.
وهناك منح أعداء داعش الفرصة للتنظيم كي يمارس ما يجيده في معارك الكر والفر، والعمليات الانغماسية، والهجوم بالعربات المفخخة، بل وتفخيخ كل منطقة ينغمس فيها التنظيم في طريق هروبه من معركة إلى معركة.
أما في إدلب فالنوايا أن يكون الحصار مطبقاً على جبهة النصرة، وأمامها إما القتال حتى الموت، وإما الاستسلام.
مع ذلك، من المبكر الحديث عن “نصر” النظام بعد هذا، بل يمكن الحديث عن كل شيء سوى النصر، إلا إذا قلنا إن عصابة النظام انتصرت على الثورة. فالنصرة وتنظيم داعش كان لهما دور في إعاقة جهود توحيد الفصائل في أكثر من مرة، وفقا لتبدل مسار قوة الطرفين، وانحياز المرتزقة إلى هذا الطرف أو ذاك، على الرغم من المنشأ الفكري القاعدي للتنظيمين.
وبناء على ذلك، تبدو الفكرة الانسحابية المتعجلة لهزيمة الثورة غير ناجزة، ليس فقط من باب عدم الرغبة في الاستسلام لهذه الفكرة، بل لأن “التفكير الواقعي” لكل من الائتلاف الوطني السوري، والهيئة العليا للمفاوضات، وفصائل المعارضة في أستانة، جاء بفعل ضغوطات أميركية عربية، سبقها انحسار للدعم العسكري والسياسي لهذه الأطراف، بل والتهديد بتجفيف منابع الدعم إن لم تلتزم الفصائل العسكرية بإملاءات غرفتي “موك”، و“موم” (غرفتي عمليات بقيادة أميركية ومشاركة عربية وإقليمية).
عملياً، المعركة بين روسيا وحلفائها ضد جبهة النصرة على الأبواب. والجبهة تشبه داعش في المعارك، من حيث أنها تجيد الهجوم أكثر من الدفاع، خاصة أن ميزان القوى مختل بشكل كبير لمصلحة روسيا وحليفها الأسدي، على الأقل لامتلاكهما الطيران الحربي.
وكالعادة، ستنشأ معارك أصغر بين النظام وفصائل أستانة، وسط اتهامات سيتبادلها النظام والفصائل عن السبب في خرق الهدنة. كما قد تنشأ معارك بين النصرة وجانب من حركة أحرار الشام المنشقة عن هيئة تحرير الشام، بمباركة من روسيا وسعادة من النظام، هذه المرة.
هذا ما جرى منذ انطلاق جولات أستانة، وصولاً إلى الجولة السادسة، ولن يشذ الأمر عن ذلك هذه المرة، كون روسيا وتركيا وإيران أطرافا مراقبة وضامنة اسميا، لتنفيذ منطقة خفض التوتر الجديدة، لكن الثابت أن هؤلاء الضامنين يقدمون مصالحهم بطبيعة الحال على كل شيء آخر.
والجديد هذه المرة عدم اعتراض الفصائل على وجود إيران كضامن للاتفاق الجديد، على عكس الجولات السابقة.
قد تكون “واقعية” المعارضة، وقراءتها للضغوط التي تتعرض لها، وانقياد النظام الأسدي وإيران للترتيبات الروسية، والتوافق الروسي التركي مقابل تبادل مصالح، ليست سوى ترتيبات لإعلان نصر طرف روسيا وحلفائها، وهزيمة المعارضة وحلفائها. هذا دون نسيان العامل الأميركي الداعشي بغموضه الذي بدأ يتكشف عن مفردات علاقة داعش بأطراف الصراع السوري، و”مفاجأة” العلاقة المريبة بين التنظيم وحلفاء النظام الأسدي بعد الصفقة مع حزب الله في عرسال.
تبقى الإشارة إلى العبارة البلاغية حول أن أطراف أي حرب هم جميعاً خاسرون، وأن الشيء الجيد والوحيد في أي حرب هو انتهاؤها. بالطبع، ينطبق ذلك على الحرب على سوريا، على الرغم من وضوح صورتي الجلاد والضحية في هذه الحرب، فقوة الجلاد لا تزال تفعل فعلها في مقابل الغياب غير الأخلاقي للقانون الدولي، والتراجع المربك لتفاؤل إرادة السوريين، نتيجة ذلك، خلال العام الجاري خاصة.
وفي النتيجة، أمام السوريين فترة انتظار جديدة. ومن حيث يبدو أن التخلص من داعش وجبهة النصرة مصلحة للنظام فقط، سيكون ذلك مصلحة للمعارضات أيضاً، بما يشبه تأهل الطرفين إلى مباراة نهائية، حتى لو كانت المعارضات ليست على قلب سوريا واحدة.
المصدر : العرب