تتحدث مختلف الأوساط السياسية والعسكرية المهتمة بالشأن السوري عن مصير مدينة إدلب وريفها، مرجّحة أن معركة إعادة السيطرة عليها المؤجلة قادمة لا محالة، والمسألة مسألة وقت لا أكثر، حيث يُعتقد أن المدينة ستواجه مصير الرقة السورية أو الموصل العراقية، ما يعني تعريضها للدمار والخراب، والأهم هو الكارثة الإنسانية التي سيتعرض لها أهلها وسكانها ونازحوها، من قتل وتشريد وعمليات انتقام وحشي، كالتي وقعت في الموصل وفي الرقة وسواهما.
ويبدو أن قادة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) في سورية الذين يتلقون توجيهاتهم من قادة جبل قنديل في حزب العمال الكردستاني التركي (PPK)، لا يخفون تلهفهم للسيطرة على محافظة إدلب، وما بعدها، بدعم أميركي، بغية توسيع مناطق سيطرتهم ووصل الكانتونات التي يسيطر عليها جناحهم العسكري، بقوة السلاح، في شرق نهر الفرات بتلك التي في غربه، وصولاً إلى تحقيق حلم إقامة دويلةٍ لهم، تبدأ من القامشلي في الشمال الشرقي من سورية وتنتهي في جبل التركمان في الشمال الغربي منها، وإيجاد نافذةٍ لها تطل على البحر الأبيض المتوسط.
ويلاقي هذا السيناريو دعم بعض أركان الإدارة الأميركية، خصوصاً في وزارة الدفاع (البنتاغون) والبيت الأبيض، بحجة محاربة الإرهاب والقضاء على تنظيم القاعدة الذي تبايعه جبهة فتح الشام (جبهة النصرة). لذلك تحاول الإدارة الأميركية التفاهم والتنسيق مع روسيا حول كيفية تنفيذه، وأخذ دعم بريطانيا وفرنسا وسواهما، الأمر الذي تعارضه أنقرة بشدة، وتعتبره تهديداً مباشراً لأمنها القومي، لذلك يكثف المسؤولون الأتراك لقاءاتهم مع المسؤولين الروس ورصفائهم في نظام الملالي الإيراني، ويقدمون سيناريوهاتٍ بديلةً لتفويت الفرصة على المحاولات الأميركية الرامية إلى التدخل عسكرياً، عبر تقديم الدعم لما يسمى “قوات سوريا الديمقراطية” المكونة بشكل أساسي من مليشيات “وحدات حماية الشعب” (YPG) الكردية، التي تمثل الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية. كما تجري أنقرة، في هذا السياق، اتصالات مكثفة مع ممثلي فصائل المعارضة السورية والتنظيمات الموجودة في محافظة إدلب، بهدف التوصل معهم إلى حلّ يجنبها أي عمل عسكري بقيادة الولايات المتحدة.
وتطرح أنقرة حلاً سياسياً بديلاً، ينهض على تشكيل هيئة إدارة محلية مدنية للمدينة وريفها، تتولى مهام إدارة شؤونها اليومية والإنسانية، وإبعاد الفصائل والتنظيمات المسلحة عن التدخل في إدارتها، ودمج أفراد هذه المجموعات المسلحة في جهاز شرطة، يتكفل بحفظ الأمن، إضافة إلى حل “هيئة تحرير الشام” التي تضم جبهة تحرير الشام وحركة نور الدين الزنكي ولواء الحق ولواء أنصار الدين وجيش السنة وسواها.
ولدى أنقرة سيناريو عسكري بديل، ناقشه عسكريون من نظام الملالي الإيراني وعسكريون روس، يقضي بأن تدخل فصائل الجيش السوري الحر المنضوية تحت قوات “درع الفرات” من الشمال باتجاه إدلب، فيما تتقدم المليشيات الإيرانية من جنوبها بغطاء جوي روسي. وتحسباً لذلك، حشد الجيش التركي العديد من وحداته العسكرية على الحدود التركية المتاخمة لمخافظة إدلب، لكن هذا السيناريو يحتاج إلى موافقة أميركية غير مضمونة، كما أن موافقة الروس أيضاً غير مضمونة، كونهم ينظرون دوماً إلى الأميركيين في كل ما يفعلونه في سورية، ويفضلون التنسيق العسكري معهم، مثلما فعلوا في اتفاق وقف إطلاق النار في المنطقة الجنوبية.
غير أن الساسة الأتراك يدركون تماماً صعوبة تنفيذ الحل العسكري في إدلب، والتكلفة الباهظة له. لذلك يواصلون مشاوراتهم مع الساسة الروس وساسة نظام الملالي الإيراني من أجل التسريع في ضم إدلب إلى مناطق خفض التصعيد، حسبما جرى التوافق عليه في اجتماع أستانة السابق، وناقشوا ذلك مع وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، خلال زيارته الأخيرة إلى أنقرة. لذلك تراجع رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، عما أعلنه سابقاً، كي يؤكد أن أمر إدلب لم يحسم بشأن عملية عسكرية تركية فيها، بعد أن كان قد تحدث عن عملية “درع فرات” جديدة فيها، لكنه استدرك أن إدلب محافظة سورية متاخمة للحدود التركية، وأن بلاده سترد بطريقة مناسبة على الإرهاب بكل أشكاله، وخصوصاً خارج حدودها.
ولا شك في أن تركيا لا تريد حدوث مأساة إنسانية جديدة على حدودها الجنوبية، قد تدفع مئات آلاف السورييين للجوء إليها، إضافة إلى تخوّفها من اعتماد أميركي جديد على مليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، في عملية عسكرية ضد الفصائل السورية المعارضة في إدلب، على غرار ما قامت به في معركة السيطرة على محافظة الرقة، حيث سلمت الولايات المتحدة الأميركية أمر المعركة إلى مليشات “وحدات حماية الشعب” الكردية، بحجة طرد مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) منها، واستبعدت أي دور تركي في هذه المعركة. لذلك تبذل أنقرة مساعيها الدبلوماسية والسياسية، بغية التوصل إلى حلّ يتم فيه استبعاد السيناريو الأميركي. والسؤال الذي يطرح في هذا الصدد: هل ستقف تركيا متفرّجة على معركة إدلب، بحجة القضاء على جبهة النصرة هذه المرة؟
وضع إدلب مختلف بالنسبة إلى تركيا عن الرقة، فمناطق هذه المحافظة تحاذي مباشرة الحدود التركية مع سورية، ووقوفها متفرّجة يعني إنشاء كيان لحزب الأتحاد الديمقراطي الكردي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا، والذي يخوض معارك عنيفة مع تركيا. لذلك لا يمكنها أن تتفرّج على فتح نافذة لهذا الكيان المعادي لها على البحر الأبيض المتوسط، والأرجح أنها لن تسكت، حتى وإن اقتضى الأمر قيامها بعملية “درع فرات جديدة”.
المصدر : العربي الجديد