يبدو أن إخراج تنظيم “داعش” الإرهابي من مدينة الرقة لن يشكل نهاية للصراع المسلح الذي يدور بين العديد من القوى على الأرض السورية، إنما سوف يشكل مرحلة جديدة، تتميز بالمزيد من الضراوة وتغيير الشكل النمطي للصراع، الذي سيأتي على ما تبقّى من الجغرافية السورية.
لقد أسدى شبح “داعش”، الذي خيم على المنطقة طيلة السنوات الثلاث الماضية، خدمات جمّة لتعتيم الصراع الحقيقي بين القوى المختلفة على سوريا. هذا البلد الذي دفعته السياسات اللامسؤولة لنظام بشار الأسد إلى حرب داخلية، شارك فيها فيما بعد القاصي والداني، وتحولت إلى ساحة لحرب تحت السيطرة.
تتطلع مختلف القوى، بما في ذلك روسيا والولايات المتحدة، إلى لعب دور أساسي في تشكيل مستقبل المنطقة وبسط النفوذ، كما أن التنافس بين مختلف القوى المحلية والإقليمية والدولية التي تتكون بشكل متزامن، تعيش حالة من التداخل الذي لن يفضي إلا إلى تعميق الأزمة في نهاية المطاف، وظهور لعبة محصلتها “لا شيء”.
ساهم وجود تنظيم “داعش” في إطالة الأزمة السورية، وهذا بالضبط ما كانت تريده القوى الدولية لكي يتسنى لها فرصة تحديد مجالات نفوذها السياسية والجغرافية والديمغرافية، وما دخول قوات “سوريا الديمقراطية” (قسد) التي يشكل مسلحو “ب ي د” الإرهابي عمودها الفقري، إلى مدينة ارقة (شمالي سوريا)
وطي صفحة “داعش فيها بشكل مماثل لما حدث في مدينة الموصل شمالي العراق، إلا بداية لمرحلة جديدة من الفوضى تأخذ فيها الأزمة أوجهًا أكثر تعقيدًا.
سوف يصعب على سوريا، في مرحلة ما بعد الرقة، الحفاظ على وحدة ترابها الوطني، لاسيما في ظل الدعم السخي الذي تقدمه الولايات المتحدة لقوات قسد، والدعم الروسي – الإيراني لما تبقى من نظام الأسد. إن هذا الوضع سوف يُحدِثُ تحولات مهمة في آليات الصراع والحرب السورية، التي سوف تكون مسألة حياة أو موت بالنسبة للبعض، فيما سوف تكون مسألة نفوذ بالنسبة للبعض الآخر.
إذا ما نظرنا إلى الحرب السورية بشكل شامل أكثر، نستطيع القول إن المرحلة الجديدة سوف تتميز بصراعات أكثر دموية على الأرض، وصعوبة سيطرة العناصر المحلية أو الإقليمية أو الدولية على هذا الصراع، الذي سوف يغدو في الواقع أزمة متفاقمة عمادها السيطرة على أراضي أكثر، عبر تغذية الصراعات العرقية والطائفية على المستويين المحلي والإقليمي.
لا يمكن حصر هذه الصورة المستقبلية المتشائمة حول احتمالات تفاقم الأزمة السورية في هذا السبب وحسب، بل إن قضايا الأمن والإرهاب الناتجة عن حالة الفوضى هذه سوف تجذب جميع العناصر القريبة والبعيدة وجميع الجهات الفاعلة الإقليمية والعالمية، كما أن التنافس المحلي والدولي سوف يزيد من صعوبة بقاء سوريا بلدًا موحدًا.
إن الناظر إلى خريطة توزع النفوذ في سوريا، يدرك حجم التقسيم الجغرافي الذي وصلت إليه جغرافيا البلاد، وهو ما يخلق بطبيعة الحال أرضية غير مستقرة في مرحلة ما بعد الرقة، لاسيما وأن جميع الأطراف لن تتخلى عن “المكتسبات” التي حققتها على الأرض، فالولايات المتحدة لن تتخلى عن المنطقة التي
سيطر عليها مسلحو منظمة “بي كا كا” الإرهابية بدعم منها، وسوف تعمل على تعزيز دور المنظمة وتوسيع أماكن سيطرتها وخلق عمق اجتماعي وسياسي واقتصادي لها، حفاظًا على مصالحها في سوريا، وكذلك إعادة إنتاج المنظمة بصورة واسم جديد.
هذه المحاولات سوف تثير بطبيعة الحال العناصر الفاعلة الأخرى، بما في ذلك القوى الداعمة لنظام الأسد، والقبائل العربية التي جرى اضطهادها من قبل منظمة “ب ي د” الامتداد السوري لمنظمة “بي كا كا” الإرهابية، إضافة للقوى الكردية المناهضة لـ “بي كا كا”، وغيرها من الجهات الفاعلة، وسوف تخلق مجالات صراع جديدة وأكثر دموية.
من ناحية أخرى، سوف تواصل روسيا حماية وجودها العسكري وتعزيز دورها في سوريا، ودعم الأسد من أجل عدم التخلي عن المنطقة الجغرافية التي يصطلح على تسميتها بـ “سوريا المفيدة”، وهو ما يعني بطبيعة الحال تعزيزٌ لنفوذ الميليشيات الإيرانية المدعومة من طهران.
لا بد أن يسعى النظام لمحاولة خلق عمق له في مدينة الرقة ذات الغالبية العربية، وانتزاعها من سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”، بل إن هذه الغاية سوف تتحول إلى هدف استراتيجي لنظام الأسد، وهو ما من شأنه رفع مستوى التوتر في روسيا والولايات المتحدة في سوريا إلى مستويات أعلى مما عليها الآن.
إن حالة التشظي التي أفرزتها الأزمة السورية على المستويات الجغرافية والاجتماعية والديمغرافية، وطول فترة الأزمة وتأثيرات الصراع، جعلت البلاد منقسمة بشكل فعلي، وهذا الانقسام سوف يطفو على السطح بشكل واضح أكثر عقب طي ملف وجود “داعش” في البلاد، حيث ستدخل سوريا في دوامة جديدة وحالة صراع تعتمد على ديناميكيات جديدة، ستقود البلاد نحو مزيد من الصراع والتجزئة.
المصدر : الأناضول