دمشقمقالات

د. أسامة الملوحي – من ذكريات الثورة السورية ضد الفرنسيين

يقول الفقيه الداعية القاضي علي الطنطاوي رحمه الله عن دمشق :»كان الأطفال في دمشق يجاهدون ضد الاحتلال الفرنسي».

ويقول الشيخ : «لقد حدثني أحد الأصدقاء أنه كان ماراً في سوق مدحت باشا في دمشق فسأل الأطفال وكانوا مرابطين فيه للجهاد: هل تسمحون لي يا أولادي أن أمر ؟

قالوا إذا كنت تستطيع أن تمشي بين العسكر مرفوع الرأس وتحملق فيهم بعينيك فمر وإن لم تفعل فعد من حيث أتيت .

انظر كيف الطفل يعلم الكبير العزة والكرامة والشرف فمن أين تعلم الطفل ليقول هذا القول الكبير ؟

من علمهم الجهاد ومن رباهم وأدبهم وحفظهم كتاب الله ؟

هل تعلمون لماذا كان أطفال دمشق بهذه العظمة ؟

السبب أن الطفل كان يرى شيخه في المسجد يعلمه القرآن ويراه بعد ذلك يحمل السلاح في الصف الأول.

السبب أن الطفل كان يرى والده وشقيقه الأكبر يحملان السلاح بجوار شيخه الذي علمه القرآن وعلم أباه وشقيقه من قبل .

هل تعلمون لماذا كان هؤلاء الأطفال عظماء وأبطال على صغرهم ؟

وهل تعلمون لم نحن صغار وأقزام على كبرنا؟

السبب إن اليوم العلماء أموات، والآباء أموات، والأمهات أموات وإن كنَّ أحياء .

هذا الكلام كله للداعية الدمشقي الفقيه علي الطنطاوي رحمه الله الذي وصف مشاهد مما كان في الثورات السورية ضد المستعمر الفرنسي، وصف عهداً ماضياً وزمناً سابقاً… وقد عاصر الشيخ بعدها كل مدة حكم حافظ الأسد، وعلمنا منه مواقف متكررة عبر السنين كان فيها بعيداً عن أي نفاق أو ركون بل أشار مراراً لكل من حوله إلى أن حافظ الأسد وفريقه أسوأ من المستعمرين الفرنسيين، ولو حضر هذا الداعية الرمز أيام بشار الأسد ثم أيام الثورة السورية ضد آل الأسد لقال فيها قولاً بليغاً فاصلاً، ولوصف أطفالها كما وصف أطفال دمشق ولوصف ذلة وصَغَار الكبار المرير بما يليق بهم و لوصف موات الآباء والأمهات في دمشق بما يفوق وصفنا ولأعلن موت علماء دمشق كلهم أجمعين…

ولو رفع الثوار أمر علماء دمشق إليه يقاضونهم وهو القاضي البارع لقضى بإنزالهم عن كل منبر من أي نوع كان، ولا أظنه كان لينتظر المشايخ القاعدين الساكتين الخرس ليعلن النفير العام.

لقد أكثر هذا الداعية الفقيه في مدح الدمشقيين ومدح تاريخهم ….مدح الرجال والنساء والأطفال ولمّا تغير بعض ذلك في نهاية خمسينيات القرن الماضي وهو تاريخ كتابته للمقال وصف التغير بالموات…موات الآباء والأمهات والعلماء فماذا لو كان هذا الداعية الدمشقي اليوم حيّاً و جال بناظريه في دمشق القديمة وهو العاشق المغرم فرأى أحياءها وأسواقها تتساقط بأيدي المحتل الإيراني وتتغير معالمها وأعلامها وصبغة التوحيد فيها يوماً بعد يوم ثم علم بسكوت مشايخها ورضوخ أهلها إلى الحد الذي وصلوا إليه… ولو بحث هذا العالم العامل في أهل مدينة دمشق اليوم هل كان سيعثر على الذين ذكرهم ووصفهم وسط بحر من الذين رضخوا ثم ركنوا بشدة إلى الذين ظلموا؟.

ومن المؤكد أنه سيصيح بحسرة :أين أهل دمشق الأصلاء وأين أطفال دمشق وأين قامات أهل دمشق وأين أئمة الحق والدفع في دمشق؟

سؤال صعب مرير لن نستطيع أن نجيبك عنه بسهولة يا شيخ الشام…لن نستطيع أن نجيبك إلا إذا رصدنا بدقة وتتبعنا ما فعله الطائفيون الباطنيون بمساعدة المشايخ المنافقين من خمسين سنة إلى اليوم في دمشق.

لقد استخدموا كل أنواع الضغط والقهر والتهميش بحق الدمشقيين وقاموا بإعادة تفريقٍ وتوزيعٍ سكاني في المدينة العريقة.

قاموا بإعادة هيكلة وتشكيل لمعظم نسيج العاصمة، وغزوها واستوطنوا جميعاً في قلبها.

ويبدو أنهم مع الاستيطان قد أجروا ما يشبه عملية الطرد المركزي الذي لف العاصمة وحرَّكها بحركة دائرية مركزية طاردة متسارعة عبر عشرات السنين أدت إلى طرد معظم أفراد الصنف الشامي الحر الأصيل إلى خارج مركز العاصمة….ولم يبق في دمشق المدينة إلا كتلٌ قليلة صامدة هنا وهناك في بعض الأحياء القديمة المتجذرة.

ويبدو أن الأطفال الذين ذكرتهم يا شيخ الشام العتيد والذين علَّموا الكبار في زمانهم في دمشق كما وصفت قد شكلوا بذور كرامة وعزة وشرف وقد ذراهم دوران الطرد المركزي العاصف إلى خارج مركز العاصمة ونثرهم حولها في كل مكان فأنبتوا النبات الطيب الأصيل الذي استغلظ واستوى على سوقه في دوما وداريا ووادي بردى والزبداني والقلمون وفي معظم محيط دمشق القريب والبعيد….وبان ثمر النبات وطيبه وخرج أحفاد من ذكرتهم يا شيخ في الثورة السورية الحديثة….هذه الثورة العظيمة التي كشفت إلى أين انتقلت الأصالة الدمشقية العريقة.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى