لا تكتسب البرجوازية السورية سمعة طيبة ضمن الأوساط الشعبية، لاسيّما في الفترة الحالية، بعد مرور ما يقارب الست سنوات على ثورة غيرت الكثير من المفاهيم عند السوريين.
فالبرجوازية متهمة من قبل هذه الأوساط، التي تؤّيد غالبيتها التغيير السياسي في سوريا، بأنها معادية لأي تغيير يؤثر على مصالحها الاقتصادية. يتحدث غالبية المعارضين للنظام السوري عن دور مهم تؤديه هذه الطبقة لصالح النظام، إن كان بصمتها أو بنأيها عن أي موقف واضح يهدد استقرارها، أو من خلال دعمها المباشر له، أو بالتشكيك الدائم في دوافع الحراك الثوري وأهدافه، من خلال وضعه موضع الاتهام المستمر منذ الأيام الأولى للثورة، قبل أن يأخذ طابعه العنفي.
كانت البرجوازية حاضرة دوماً في الحسابات الدقيقة لنظام الأسد الأب، حيث سعى إلى ربط نشاطها الاقتصادي بكبار رجال الدولة والأمن، بما يضمن مصالح الطرفين من خلال إجراء شراكة عضوية عمل النظام على ضبطها وتوسيعها خلال عقود حكمه. لم يكن التحالف بين رأس المال والسلطة معلناً خلال العقود السابقة، ولكنه كان أمراً معروفاً يدركه حتى البسطاء من الناس، ويتناقلون حكايات عنه في مجالسهم المغلقة. فلم يكن يخفى على المواطن العادي قدرة المال على فتح أبواب مغلقة وسرية في النظام، لا يجرؤ أحد على طرقها. كما أنّ المعارضة أولت بدورها أمر هذا الارتباط غير المعلن اهتماماً كبيراً، في محاولة منها لتفكيك طبيعة النظام السوري، ولفهم أسباب استمراره لفترة طويلة.
في ضوء هذا التحالف السرّي، كان من اللافت أن يصدر تصريح واضح من شخص كان يُعد الرجل الثاني في نظام الأسد، ولو بعد مرور أكثر من 25 عاماً على إبعاده عن السلطة. فلقد تحدث رفعت الأسد في مقابلة معه، في بداية الثورة، عن خوف من سماهم «البرجوازية الإسلامية» من المستقبل المجهول.
تحدث الأسد العم عن اشتراك البرجوازية السورية مع بقية الأقليات العرقية والدينية في مخاوفها من الثورة، ومما قد يحمله مستقبل ما بعد سقوط النظام من مجهول. وثمّة ما يدعو للتأمل في ورود ذكر هذه الطبقة مع الأقليات، وفي عقلية الحرس القديم في التعاطي معها، واستخدامها كورقة عند أي تهديد يتعرض له النظام. ثمة خلط بين البرجوازية كطبقة وبين المدينة كبيئة تحتوي طبقات عديدة، حيث جرى، في كثير من الأحيان، تعميم مجحف بحق المدينة ككل، من خلال إسباغ صفات أصحاب رأس المال (العابر للوطنيات تحديداً) على المدن بأكملها، وهذا ما عانت منه مدينة دمشق على وجه الخصوص، والتي اعتبرت مدينة برجوازية صامتة، رغم أنها سجلت خلال السنة الأولى من الثورة حراكاً لافتاً في معظم مناطقها. وكان الأولى أن يتم الفصل ما بين البرجوازية كطبقة (قد تشمل عدداً كبيراً من عائلات المدينة)، وبين المدينة التي تضم فئات أخرى، تعاني ما يعانيه أي سوري آخر، وتحمل تطلّعاته نفسها.
يمكن التعامل مع الطبقة البرجوازية كأقلية اجتماعية اقتصادية، شأنها شأن بعض الأقليات التي انغلقت على مصالحها الضيقة، وإن كانت أكثر تأثيراً، بحكم امتلاكها لمفاتيح الاقتصاد، ولحساسية قربها من مراكز صنع القرار، ولسطوة المال حتى على أصحاب الرتب العسكرية والأمنية العالية. والجدير بالذكر، أنّ هذه الأقلية المؤثرة لم تعد اليوم بعيدة عن الأضواء، كما كان الحال عليه في بدايات الثورة، ولم تستمر على هيئة شبح تُنسج حوله الحكايات والتخمينات، ولعل ذلك يعود إلى إحساسها بحدوث تغيرات مهمة في موازين القوى، لاسيّما بعد أن أصبحت سوريا تحت وصاية روسية معلنة، وبعد حدوث انتصارات للمحور الداعم للنظام، إن كان في ريف دمشق أو في حلب، وغيرها من المناطق.. بل رأيناها مؤخراً من خلال تجمع جرى وسط العاصمة دمشق، فيما أطلق عليه اسم «ماراثون أحب دمشق» أو «ماراثون الألوان»، وفيه تجمع الآلاف من الشباب والفتيات الذين ظهروا بأشكال لا تشبه حال البلد المدمر، ولا حال الشعب المهجر في الداخل والخارج ولا حتى حال المؤيدين الذين يُساقون إلى الخدمة العسكرية للموت على جبهات القتال.
واللافت أنّ التظاهرة أثارت سخط المؤيدين بقدر السخط الذي أثارته عند المعارضين، فقد وصفها بعضهم بـ (المهزلة)، وهي كذلك فعلاً. ففيها ظهر وجه النظام من خلال العديد من عناصر الأمن والدفاع الوطني، الذين تولّوا مهمة حماية متظاهرين بدت عليهم مظاهر الثراء من خلال اللباس، وقصات الشعر المواكبة لآخر صيحات الموضة، والأجسام التي يتطلب رسمها الكثير من المال والوقت في صالات الرياضة، في بلد يشهد حصاراً واستنزافاً لكل موارده البشرية والاقتصادية.
لا يشبه أبناء الأقلية البرجوازية الدمشقية أبناء عموم الدمشقيين المحافظين على عادات وتقاليد راسخة؛ فلا ملابس الفتيات، ولا عري صدور الشباب، ولا قصات شعرهم، ولا حتى إقبالهم الغريب على تسجيل كل تفاصيل (المهزلة) من خلال صور (السيلفي)، ولا التراشق بالألوان أو الرقص في الشوارع، هي من عادات عموم الدمشقيين في حالة الاستقرار، فضلاً عن أزمنة الحرب والدمار. يمكن القول بأنّ هذا الماراثون يكتسب أهمية خاصة، كونه يمثل ماراثون أبناء البرجوازية الدمشقية بامتياز، ويظهر علاقتها بالسلطة، وبراغماتيتها في ما يتعلق ببعدها عن الأضواء في الأزمنة الحرجة، ثم ظهورها العلني حين تكون الأوضاع مواتية.. برجوازية منفصلة عن واقع الناس، ولا تكترث بآلامهم، حتى آلام الدمشقيين منهم، الذين ما يزال كثير منهم يعاني الاعتقال والتعذيب.
أعادت صور «السيلفي» مع « الدك فيس» إلى ذاكرتنا، صور «السيلفي» الدموية التي اعتاد عليها بعض عناصر النظام، وبعض متطرفي المعارضة مع الجثث. فالمشهد دموي جداً، ولن تلطف من دمويته تلك الألوان التي استخدمت في مهرجان الألوان.. فالأحمر ما يزال سيد الألوان في سوريا.
المصدر : القدس العربي