التربية الإيجابية
في زمن يخيّم عليه طابع العنف والجريمة واللا أخلاق في جميع المجتمعات كزماننا هذا، أصبحت تربية طفل تربية سليمة وتنشئته على الأخلاق والمبادئ الجيدة هي مهنة شاقة للآباء والمربين على حد سواء، بل قد تكون أيضاً من المهام المخيفة لبعضهم، فمن الواضح أن الطفل الآن يتسم بقدر من الذكاء والنضج أكثر مما كان عليه الأطفال سابقاً، فليس من الغريب إطلاقاً أن تجد الآن طفلاً لا يتجاوز الرابعة والخامسة من عمره يجادل ويناقش كرجل بالغ راشد، كل هذه التحديات دفعت العلماء للبحث والاجتهاد للوصول لمنهج جديد يتبعه الآباء والمربون في تربية أبنائهم تربيةً سليمةً إلى أن توصلوا لمنهج التربية الإيجابية.
وقد انتشر هذا المصطلح كثيراً في السنوات القليلة الماضية بين المربين والآباء، ولكن ما يجب ذكره أن المصطلح إذا كان جديداً فهو فقط إعادة بناء للمنهج القديم للتربية الصحيحة في الإسلام بشكل فقط يتناسب مع تحديات العصر، فهل يُحسن جميع المربين والآباء استخدام المنهج وتنفيذه مع الأطفال؟
فلسفة التربية الإيجابية
تفترض التربية الإيجابية أن الطفل يُولد على الفطرة، وبالاحترام والرعاية والمحبة والتوجيه الجيد يمكن أن يصبح فرداً سوياً خلوقاً مسؤولاً وناجحاً في حياته إذا بلغ الرشد، فالتربية الإيجابية هي مزيج ما بين الحب والتفاهم والعطف والحماية، والسنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل تعتبر وقتاً مثالياً لاتباع منهج التربية الإيجابية نظراً لأهميتها في التأثير على الطفل، فهي المرحلة التي يكوّن فيها الطفل قدراته الفكرية والعاطفية والاجتماعية، وعليه فهو يتقبل شعور الحب ويتعلم التفاهم ويهفو إلى الحصول على الحماية.
كيف تصبح مربياً إيجابياً؟
تقول الدكتورة تانيا بايرون، الأخصائية البريطانية الشهيرة في تنمية الطفل، إن «الأبوة والأمومة لا تعني عمل الشيء الصحيح دائماً، بل أن يستطيعوا التعايش مع صعوبات الحياة، والوقوع في الخطأ، والشعور بالقلق وقلة السعادة، ولكن بالرغم من كل هذا يكون لديهم إيمان قوي وراسخ بأن الأمور ستتحسن بمرور الوقت فقد صنعوا الرابطة والعلاقة الايجابية مع طفلهم، لذلك باستطاعتهم أن يتعايشوا مع كل الأوضاع وبثقة كبيرة».
كما أن المربي الإيجابي لابد أن تتحلى شخصيته بحسّ الفكاهة والمرونة والقدرة على التفاهم والاستيعاب الكامل للطفل مع فهم طباعه ومتطلبات مراحل عمره المختلفة.
استراتيجيات ومبادئ التربية الإيجابية
الأطفال الناشئون في بيئة ذات مبادئ وقوانين واضحة يتمتعون بصحة نفسية واتزان عقلي أكثر من غيرهم، لذا فعلى الآباء والمربين الحرص على سن القوانين والمبادئ التي توضح للطفل حقوقه وواجباته في مراحل تربيته المختلفة.
أولاً: الاحترام المتبادل
يتمثل الاحترام المتبادل في التربية الإيجابية في الموازنة بين الحزم واللطف من قبل المربي، فاحترام الكبار وتقديرهم من قبل الطفل هو ما يخصّ قانون الحزم، أما عن اللطف فهو إعطاء الطفل نفس القدر من الاحترام والتقدير مع مراعاة احتياجاته، وفي صور أخرى للاحترام المتبادل نجد أن الاعتذار من الطرفين سواء الآباء أو المربين أو الأطفال عند الخطأ يساعد في ترسيخ مبدأ «الاحترام المتبادل» لدى الطفل وتمكينه من تنفيذه بسهولة.
ثانياً: فهم عالم الطفل
طفلك في الثانية من العمر ليس عنيداً ولكنه يبحث عن الاستقلال، وطفلك عند التسعة أشهر ليس فوضوياً ولكنه يُرضي شغفه لاستكشاف ما حوله، وطفل الرابعة ليس كاذباً ولكنها مرحلة الخيال! والثقافة التربوية لدى المربي هي التي ترشده لتلك المعلومات، معرفة مراحل تطور الطفل النفسية والبدنية تجنب الآباء والمربين الكثير من الصدامات مع الطفل الذي يمر بمراحل نمو حساسة لها متطلبات محددة قد يسيء فهمها الوالدان نظراً لنقص معلوماتهما حولها.
فمن الممكن أن نقول إن الطفل في العام الأول من حياته يبحث عن الثقة والأمان، فكلما ألصقته الأم بها في الشهور الأولى من عمره، كلما كان أقدر على الاستقلال عنها بعد ذلك لأن الاستقلال سينبع من ركيزة قوية يشعر بها وهي الأمان، وهذا بالطبع على عكس ما قد يعتقده البعض خطأ في عدم حمل الطفل الدارج والاستجابة السريعة له عند البكاء حتى لا يعتاد ذلك.
ثالثاً: الإنصات الفعال وحل المشكلات
التعاطف مع الطفل من أهم مبادئ التربية الإيجابية، وهو ما تسميه جان نيلسون أحياناً «التواصل قبل التصحيح»، وهذا التواصل له قواعد ليتم بالشكل المطلوب منها الاستماع الجيد وإظهار التعاطف بتعبيرات الوجه ونبرات الصوت ومشاركة الطفل مشاعره وأفكاره عند الحاجة، وعدم إصدار الأحكام، مع الحرص على توصيف مشاعره ومساعدته في فهمها ما يجعله يستطيع التعامل معها لاحقاً، فمثلاً نقول: «يبدو أنك شعرت بالظلم!» أو غيرها من الجمل التى تشعره بأنه نجح في شرح ما بداخله وتفهمنا له.
يأتي بعد ذلك مساعدة الطفل على إيجاد حلول تنبع من نفسه لا من والديه، وذلك بطريقة الأسئلة لا بطريقة التوجيه المباشر، كأن نقول: «هل ترى أن الغضب حل مشكلتك؟ كيف تحب أن تواجه تلك المشكلة في المرة القادمة؟»، مثل هذه الأسئلة تجعل الطفل يدرك أبعاد الموقف وأحقيته في مشاعره، ما يجعل من السهل عليه إيجاد حلول لما يواجهه من مشكلات بمفرده لاحقاً.
رابعاً: التشجيع بدلاً من المدح
التشجيع هو إحدى وسائل التهذيب القيمة جداً التي نعتمد عليها بشكل أساسي في التربية الإيجابية، والمقصود بالتشجيع هنا هو تشجيع الفعل الحسن لا مدح الطفل، كأن نقول: «لقد أصبحت ماهراً في حل هذه المسألة»، لا أن تقول: «أنت عبقري!» إن الاكتفاء بإصدار تعبيرات التفهم، مثل: «مممم، أرى أنك منهمك في عملك»، تؤدي على المدى البعيد إلى آثار أفضل بكثير من مدح الطفل المستمر بصفات غير ملازمة له.
سيؤدي ذلك إلى مشكلة كبيرة تتلخص في أن الطفل سيبحث دائماً عن حافز خارجي لفعل التصرف الصحيح، وستكبر هذه المشكلة معه ما يجعله شخصاً يعتمد على غيره حتى يشعر بالرضا النفسي والإنجاز، وقد ينتج عنه شخص منافق يسعى لإرضاء غيره بفعل ما لا يقتنع به. أما مدح الفعل فإنه يشجع الطفل على تعلم المزيد وهو يشعر بثقة في نفسه وقدرة على الإنجاز، ومن مشاكل المدح أيضاً أن توقفك عنه وقيامك بالذم وقت الفعل الخاطئ يوصل شعوراً للطفل بأن حبك له مشروط بإنجاز الفعل الصحيح، ما يشعره بعدم الأمان في علاقته معك.
خامساً: فهم الاعتقاد خلف السلوك
لكل سلوك ظاهري للطفل (خاصة السلوكيات السيئة) أفكار داخلية راسخة نشأ عنها هذا السلوك، فمثلاً رد الفعل الغاضب الدائم من الطفل -الذي قد يبدو انتقاماً- قد يكون سببه الشعور بالإحباط الناتج عن انتقاد الطفل الدائم من الأبوين أو المربين، هذه الرغبة في إظهار شخصية قوية قد تخبئ خلفها شخصية هشة ضعيفة لا تشعر بالأمان.
لذا فإن التربية الإيجابية تحث على تغيير المعتقدات بدلاً من التركيز على تغيير السلوك الظاهري لكي لا يكون التغيير مؤقتاً قبل أن يعود السلوك للظهور، فاختيار الحلول الفعّالة على المدى البعيد يثمر عنه تغيير المعتقدات، ومن ثم تغيير السلوكيات الخاطئة واستبدالها بسلوكيات أفضل، فنوبات الغضب مثلاً هي سلوك سلبي ينتج عن طفل يشعر بالإحباط، قد يكون الحل الفاعل على المدى القريب هو أن تعطيه كل ما يريد -أي أن تقوم برشوته- حتى يهدأ، وحينها سيتكرر الفعل دائماً طلباً للمزيد، بينما الحل الفاعل على المدى البعيد هو أن تخبره بأنك تقر مشاعره ورغبته في الفعل ولكنك لا تستطيع الاستجابة له الآن حتى يهدأ أو تتغير الظروف، وحينها سيتعلم السيطرة على رغباته وتهدئة نفسه بنفسه.
سادساً: العواقب لا العقاب
أسلوب «العاقبة» من أنجح طرق التهذيب لسلوك الطفل، لذا فهو مبدأ أساسي من مبادئ التربية الإيجابية، وهو أن نجعل لكل تصرف خاطئ عاقبة تتناسب معه هي بمثابة نتيجة مباشرة ومنطقية له، كأن تكون عاقبة إساءة استخدام الألعاب (تكسيرها مثلاً) هو أخذها بعيداً مع الإشارة لأسباب هذا التصرف منك -وأن تخبره بأنها متاحة حين يود استخدامها استخداماً جيداً- بدلاً من العقاب البدني أو اللفظي أو حتى النفسي -كالتجاهل أو وضع الطفل في ركن العقاب- فكل هذه الطرق تفاقم الأمور وتنتج شخصية مشوّهة أما ساخطة أو متمردة أو منسحبة أو ترغب في الانتقام، وكلها نتائج سلبية لا شك أن الآباء والمربين لا يودون الوصول إليها بالطبع.
على عكس أسلوب العاقبة التي يتبعها تفسير منطقي ما يجعل اعتراض الطفل عليها -إن وجد- اعتراضاً مؤقتاً يتبعه قناعة بأن هذا التصرف من والديه كان حكيماً وعادلاً، أما التساهل فإنه -على عكس المتوقع- يجعل الأطفال الذين لديهم حرية مطلقة في صنع ما يفعلون بدون إرشاد وتوجيه، لا يشعرون بالأمان لأن القوانين تعطي إحساساً باهتمام الوالدين ومسؤوليتهم تجاه الأطفال.
سابعاً: التركيز على الحلول بدلاً من اللوم
عندما يخطئ الطفل يسيطر عليه الشعور بالذنب والعجز، وتوجيه اللوم له يزيد داخله هذا الشعور ولا يجعله يحسن التصرف في المرات القادمة، ولكن ينتظر الطفل منك أن تشركه في اقتراح حلول للمشكلة الناتجة عن خطأه، ما يعزز عنده مهارات حل المشكلات ويرسخ عنده الثقة في قدرته على تجاوز الأزمات على المدى البعيد، الصراخ وكثرة اللوم لن تغير من الأمر شيء بل سيزداد الوضع سوء ويصبح الطفل محبطاً ينتقص من نفسه ولا يحب سماع كلماتك في المرات القادمة لأنك تزيد مشاعره السلبية تجاه نفسه، وأسوأ ما يمكن أن يفعله الآباء والمربون هو نعت أطفالهم بصفات قد تصبح لصيقة بهم مع تكرارهم لها مع كل خطأ، كأن يخبر الوالدان الطفل أنه «مهمل» أو «فاشل» أو «لا يحسن التصرف أبداً» فهذه الألقاب عواقبها وخيمة.
لا تترددوا في خلق بيئة إيجابية محكمة بالقوانين والمبادئ ومليئة بالراحة والهدوء النفسي لتنشئة فرد يتمتع بعنصر الثقة بالنفس قوي الصلة بوالديه قادر على ممارسة الاحترام المتبادل بينه وبين أفراد أسرته، ومن ثم بينه وبين مجتمعاته المختلفة التي يتواجد بها على مدار حياته.