الصداقة العميقة التي جمعت بين غابرييل غارثيا ماركيز والزعيم فيديل كاسترو منذ مطلع الستينات من القرن المنصرم ما برحت سراً وربما لغزاً انطوى أخيراً مع رحيل بطل الثورة الكوبية. وعندما توفي ماركيز عام 2014 قيل حينذاك إنه حمل معه هذا السر الذي مهما سعى بعضهم إلى تفسيره يظل عصياً على الفهم. كان من الطبيعي أن يتحمس ماركيز للثورة الكوبية التي قامت العام 1959 وأن يرى في قائدها صورة المناضل المثالي الذي تخلى عن إرث العائلة الثرية ليلتحق بصفوف البروليتاريا ويناضل ضد الحكم الاقطاعي، الظالم والفاسد.
لكنّ ماركيز الذي رافق كاسترو كصحافي أولاً لاسيما عندما عمل مراسلاً في كوبا، ثم كروائي كبير ذاعت شهرته عالمياً بعد نيله جائزة نوبل، أصرّ على هذه الصداقة بل راح يمتّن أواصرها حتى غدا كاسترو، في أوج حكمه، أقرب الأصدقاء إليه ومرجعاً له، في السياسة وفي الأدب كما يعترف ماركيز نفسه. وطوال تلك الأعوام كان صاحب «مئة عام من العزلة» يغض النظر عن النزعة الدكتاتورية التي نمت عند كاسترو وحوّلته من مناضل ثوري مثالي وحالم إلى طاغية ومستبد، يسجن المعارضين ويضطهدهم وينفيهم ويطارد الصحافيين والكتاب والمثقفين الذين يرفضون سياسته ويحتجون على سلوكه في الحكم.
لم يساند ماركيز المعروف بمواقفه الثورية، قضية الكتاب والصحافيين الذين رماهم كاسترو في السجون أو نفاهم. لكنه سعى في مرات قليلة لدى الحكم لإخراج بعض السجناء ونجح مثلاً في إطلاق سراح المعارض الشهير رينول غونزاليس عام 1977. هذه الصداقة بين الروائي والثوري الذي أصبح ديكتاتوراً، كانت دوماً مثار استهجان واستياء في أوساط الأدباء والمثقفين والصحافيين في العالم. ورافق ماركيز مرة كاسترو في إحدى إطلالاته الخطابية عام 1980، وفيها هاجم بقسوة مواطنين معارضين لجأوا إلى السفارة البيروفية احتماء من اضطهاد الشرطة الكوبية لهم، ووصفهم بالرعاع والأنذال. حينذاك ارتبك ماركيز لكنه لم ينبس بكلمة. هذه الواقعة أو الفضيحة يذكرها في يومياته الروائي الكوبي الكبير رينالدو أريناس الذي انتحر في منفاه الأميركي عام 1990 وكان في السابعة والأربعين.
لم يدافع ماركيز عن أريناس ولا عن الروائي الآخر غيللرمو روزاليس الذي انتحر أيضاً في ميامي عام 1993 في السادسة والأربعين. وكان الروائيان هذان في جريرة المنفيين الذين سمح لهم النظام بمغادرة كوبا في دفعة المهاجرين قسراً عام 1980 والذين بلغ عددهم مئة وخمسة وعشرين ألفاً وقد عرفوا بـ «الماريليتوس» أو الخارجين عبر مرفأ «مارييل»، فارغي الأيدي، بلا حقائب ولا أوراق. وقصة هذه الدفعة من المنفيين كتبها الروائي كارلوس فيكتوريا الذي كان بينهم. وفي العام 2009 غداة حملات الأسر التي قام بها النظام، وجه الكاتب الكوبي الكبير المنشق والمقيم في فرنسا إدواردو مانيه نداء خاطب فيه ماركيز، آخذاً عليه صمته إزاء حملات الاعتقال التي جعلت من كوبا أحد أكبر سجون الصحافيين والكتاب في العالم، واستنكر تقاعسه عن الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان.
وذكّره كيف استخدم نفوذه سابقاً لتسهيل ترحيل بعض المنشقين بينما هو يتجاهل ما يحدث في كوبا التي باتت دولة تحكمها المافيا العائلية وتفرض قانون الصمت على الجميع. وفعلاً بدا ماركيز في صمته أوغض نظره عن فضائح النظام أشبه بـ «متواطئ» مع النظام و»شريكاً له»، كما عبّر إدواردو مانيه. لكنّ سر هذه الصداقة يظل سراً، فماركيز لم يكن يحتاج إلى دعم النظام له ولا إلى تبنيه ، فشهرته ذاعت في العالم كله، ولم يكن يحتاج إلى المال ولا إلى السلطة بل كان هو نفسه يتبرع لكوبا والكوبيين، ولعب في فترة ما دور الوسيط بين كاسترو والرئيس الأميركي بيل كلينتون في ذروة الحصار المضروب على كوبا وخلال أسر الشرطة الأميركية أعداداً من الكوبيين الفارين، بتهمة الإرهاب.
ماذا وجد روائي كبير في حجم ماركيز في شخصية الزعيم الثوري كاسترو الذي أصبح دكتاتور كوبا؟ لماذا أصرّ على صداقته به على رغم تيقنه من بطشه واستبداده؟ كيف نسي ماركيز أنه صاحب رواية «خريف البطريرك» الشهيرة التي هجا فيها نموذج الديكتاتور الأميركي اللاتيني؟ ولم يخجل ماركيز مرة من القول إن كاسترو يحب كثيراً هذه الرواية وإنه شخصياً معجب بنظرة كاسترو إليها. ولم يتوان ماركيز بتاتاً عن الدفاع عن كاسترو وعن صداقته له. كتب مرة يقول: «صداقتنا هي ثقافية.
قلة هم الذين يعلمون أن فيديل رجل مثقف. عندما نكون معاً نتكلم كثيراً عن الأدب». ويقرّ ماركيز أنه كان يطلب من كاسترو ان يقرأ بعضاً من مخطوطات كتبه قبل أن يدفعها إلى النشر، مستمزجاً رأيه بها. أما كاسترو فكان معجباً كثيراً بأدب ماركيز ولم يوفره من المديح والإطراء. وكتب مرة عنه: «ماركيز ساحر وسحره يكمن في أنه يجعل من الأشياء حالة عجيبة في حدث لا يصدق … لكم أحسده على بداهته الأبدية هذه». أما النص الرهيب الذي خص به ماركيز صديقه كاسترو وعبّر فيه عن حقيقة نظرته إليه فكان كتبه عام 2006 ونشره في صحيفة «غرانما» الكوبية. وننشره هنا في ترجمة الكاتب البحريني عبدالقادر عقيل.
المصدر : الحياة