«النصر» ليس تفصيلاً في حياة من يُشهرونه في وجوهنا. «النصر» عارض مقيم في هزيمة تفوقه حضوراً وجوهرية في نفوس المستجيبين لندائه، هزيمة تثقل على أصحابها، فيستعينون بـ «النصر» على عثرتهم الأصلية. وفي ظل طغيان «النصر» على كل هذيانات المرء وعلى كل انفعالاته، صار لازماً علينا أن نعود به إلى هزيمة أوجبت استحضاره. ففي مقابل كل «نصر» هزيمة ما، أو مهزوم ما، والمرء إذ يهذي بـ «نصره» صبحاً ومساء، فهو يستجيب حاجة أو رغبة أو شهوة، وهذه كلها مما تشتهيه نفس مترنحة لم يُشبَع ما تطلبه من رغبات.
في لبنان «نصر» كبير سجلته نفس لبنانية مستجدة التكون، ذاك أن لبنان كف منذ زمن عن أن يكون نفساً جماعية. «النصر» كشف أن شيئاً يتوق إلى أن يصبح نفساً، وإلى أن يُصبح نفسـ «نا». وأعلن هذا الشيء عن نفسه في صورة نصر في جرود بعلبك وعرسال.
ثمة من يريد أن يكون «نفسنا»، وفي هذا مقدار مضاعف من التعسف، ذاك أنه في إعلانه «النصر» لم يعفنا من رغبته في أن يكون قد انتصر علينا. والمعادلة هنا تصبح: لقد أطحتُ نفسكم الجامحة وأريد أن أُحل مكانها في وجدانكم نفسي المنتصرة». وعملية الإحلال هذه لا تخلو من احتلال.
الهاذون بـ «النصر» يريدونه وجبة يومية على كل الموائد. محطات التلفزيون تسأل ضيوفها عن «النصر»، وتلامذة المدارس لُقنوه في الحصة الأولى من العام الدراسي الجديد، والصحافيون المُرسلون إلى الجرود لتغطية «النصر» أدوا هناك وظيفة أخرى.
أي تحفظ سيواجَه بالتخوين، وأي سؤالٍ ستُرسم حول صاحبه علامات استفهام وشكوك، وعلى المؤمنين بـ «النصر» أن لا يضجروا من تجدده كل صباح، وإلا اتهموا بالتسبب بوهن إرادة الأمة. ولكي تكون مواطناً صالحاً في وطن «النصر»، عليك أن تستيقظ كل صباح وتعيد تشغيل أراجيزه الركيكة في مخيلتك.
ولـ «النصر» موجباته المتفاوتة وغير المنسجمة. المنتصرون يقفون ضد الدولة الكردية في العراق، ذاك أنها انشقاق عن الوجدان الانتصاري. العراق، ذاك الذي أنشد صدام حسين نشيد وحدته، عاد وتجدد في ذلك الوجدان بصفته واحداً موحداً، وأي مساس فيه هو مساس بـ «النصر». طالبو الاستقلال من الأكراد العراقيين ليسوا سوى «دواعش»، والدليل على ذلك فرار عناصر «داعش» في تلعفر إلى مناطق البيشمركة بدل فرارهم إلى مناطق الحشد الشعبي الانتصاري. هذا في وقت كانت صفقة انسحاب عناصر «داعش» من الجرود اللبنانية إلى الصحراء العراقية، علامة سعة صدر الحزب حيال عناصر التنظيم الثلاثمئة وعائلاتهم وعجائزهم، حتى وإن كان بينهم قتلة جنود الجيش اللبناني الثمانية.
«النصر» غاسل ذنوب المنتصرين، حتى لو كانوا يقيمون مصادفة في أميركا، وتردّد أنهم تقاضوا رواتب من أجهزة «الشيطان الأكبر» الأمنية وغير الأمنية.
لا بأس أن نتمرن على الهزيمة، نحن القلة الذين لم يقنعهم «النصر». أن نعيش مهزومين وسط جماعة منتصرة. في ذلك تمارين موازية أيضاً، أهمها التمرين على أن يصمت المرء وأن يمضي في طريقه الخاص، بعد خيباته. أن يقول أنه انزلق وراء خيبته الخاصة، وأنه وحده من يشعر بأن الهزيمة نصيبه، وهو بشعوره بها ينأى بنفسه عن منتصر متوهم وعن مهزوم متوهم. «داعش» لم يُهزم. أنت أيها الرجل قليل الحيلة من هُزم. ها هو التنظيم قد تبخر في الصحراء، وأنت وحدك في عراء المخيمات الممتدة على طول البادية.
ثمة منتصر يجثم فوق أكثر من عشر مدن مدمرة. وثمة مدن مرشحة للانضمام إلى هلال الخراب. عليك أن لا تنبس ببنت شفة، وإلا كنت «داعشياً». عليك أن تعاين منزلك المدمر في حمص أو في الرمادي بعين الرضا، ذاك أن ثمة منتصراً يرصدك. وأنت أيها اللبناني، يا من تقول أن «حزب الله» لا يقاتل الإرهاب في سورية، إنما يحمي النظام فيها، كف عن قولك هذا، فقد سبقك إلى القبول من كانوا على رأس التظاهرة التي طالبت برحيل النظام.
لا بأس من التدرب على الهزيمة، ففي ذلك تخفف من حمى الانتصارات. أن يشعر بالهزيمة من هو مهزوم فعلاً، ونحن مهزومون بلا ريب، وعيش الهزيمة من دون هذيان «النصر» باب للشفاء. لا بأس بخطوات أكثر تقدماً، كأن يعلن المرء استسلامه وفشله، ذاك أننا فشلنا فعلاً لا قولاً، وليس عيباً أن نقول أننا انزلقنا إلى تظاهرة رُفعت فيها صور صدام حسين، وإلى ثورة صادرها إسلاميون وتكفيريون، وإلى مواجهة لم نكن بحجمها.
التعلم على قبول الخسارة، هو الطريق الآخر للشفاء، فهل من خسارة تفوق دمار عشر مدن ومقتل مئات الآلاف من الناس ونزوح ما يفوق العشرين مليوناً عن منازلهم ومدنهم.
علينا أن لا ننزلق إلى سجال «المنتصرين» بوهم أننا لسنا مهزومين، ذاك أننا فعلاً مهزومون. «داعش» ذاب في الصحراء وفي عقول عشرات آلاف الفتية. هل من هزيمة أوضح من ذلك؟ بشار الأسد أعيد إحياؤه، و «حزب الله» يعقد صفقات مع مقاتلي التنظيم ومع أمرائه، ومن خلفه حكومات ثلاث دول مستتبعة.
«داعش» لم يُهزم، فهو لم يولد لكي يكون قلعة أو حكومة أو مدينة حتى يسقط بيد منتصرٍ. «داعش» هو السلطة الموازية للسلطة المنتصرة. ها هما يتفاوضان ويعقدان الصفقات، ويحيلاننا إلى مهزومين. «داعش» عاش في الموصل بأمان ووئام قبل أن تسقط المدينة بيده. و «داعش» غير المرئي أقوى من نفسه عندما يكون مرئياً، وأقوى من كل شيء عندما يخرج من قمقم يعيش فيه ملايين المهزومين.
يُدرك «المنتصرون» هذه الحقيقة، وعلى رغم ذلك هم سائرون بنصرهم إلى النهاية، لا بل هم يمعنون فيه ويمحون عبره الهزائم الغائرة في نفوسهم ونفوسنا. فأن تُدمر الطائرات الإسرائيلية موقعاً لهم في مصيَف من دون أن ينبسوا ببنت شفة، فهذه حكمة وليست هزيمة، أما أن تُدمر الموصل وأن ينزح أهلها، وأن يُقتل منهم حوالى 40 ألفاً وأن يتبخر مقاتلو «داعش» في الصحراء، فهذا نصر يجب عدم السجال بحقيقته، وإلا كنت «داعشياً».
المصدر : الحياة