خلال التصفية نصف النهائية لبرنامج America’s Got Talent الشهير، حيث تتنافس المواهب الفنية والإبداعية على نيل الجائزة الكبرى في تصفيته النهائية وقيمتها مليون دولار، إلى جانب الجائزة المعنوية الأكبر وهي دخول نادي المشاهير وما سيجلب هذا الموقع للفائز من عروض سخية ستشكل حكماً منعطفاً استثنائياً في حياته وحياة عائلته ومحيطه، في تلك التصفية ذهبت أصوات الجمهور الأميركي، الذي هو الحكم الأول والأخير من خلال استعمال آلية التصويت الالكتروني على تطبيقات البرنامج، إلى متسابقين أثبتوا أنهم على مستوى استثنائي من قوة الحضور والتأثير الشعبي العام، حيث انتقلت إلى التصفية النهائية صبيّتان في مقتبل العمر تحملان مؤشرات إنسانية فوق عادية تتفوق إلى حد كبير على ما قدمتاه من أداء غنائي كان لهما فيه منافسون أقدر على الاستمرار إلى الحلقة الأخيرة من التصفيات.
أما الصبيّة الأولى الفائزة بالتصويت الشعبي فهي الناجية الوحيدة من حادث تحطم طائرة مدنية في الولايات المتحدة قبل سنوات قليلة، قتل فيه كل ركابها، وهم بمعظمهم زملاؤها في المدرسة وقد استقلوا الطائرة ذاتها في تلك الرحلة الطلابية المشؤومة. وعلى رغم الحروق الجلدية البليغة على الوجه والساعدين والساقين التي خلّفها سقوط الطائرة وانفجارها حين ارتطمت بالأرض على جسد تلك الصبية، فإن إصرارها على الحياة، بل وإيمانها بطاقة الروح التي تضاهي في لمعتها الكمال الجسدي وتغلبه في معظم الحالات، جعلتها تقف بهيبة الكبرياء، وبلا وجل، أمام ملايين المتابعين على الشاشات في بث مباشر من هوليوود وهي تغني بما يشبه تراتيل القيامة التي نحفظها من شعر محمود درويش: إنني عدت من الموت لأحيا وأغني!
الفائزة الثانية كانت عازفة ومغنية صماء تماماً، تتعامل مع الموسيقى بالحس والتخاطر، تغني ولا تسمع أغنيتها، تردد المقامات اللحنية بقلبها وفطرتها، وتتناغم مع الموسيقى من خلال إرادة استثنائية على التواصل مع محيطها ولو كانت محجوبة عنه بعازل الصمت.
كلتا الصبيتين حازتا تأييد الأغلبية في التصويت الجماهيري العام، وفازتا بمنطق تفوق رهافة الحسي الإنساني على صرامة المحسوس الفيزيائي وقد غدا معياراً عتيقاً ينتمي إلى الماضي، نسبة إلى الجيل الأميركي الجديد ومفاهيمه ما بعد الحداثوية.
السبب في سوقي هذا المشهد الرمزي من الحياة الأميركية يقع في عمق علاقتنا نحن السوريين في تفنيد السبل التي سلكناها لنقل وتسويق قضية الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية التي نحملها عبر العالم، وبالأخص إلى عاصمة من عواصم القرار العالمي: واشنطن.
من المؤسف أن التشكيلات السياسية والمدنية السورية المعارضة التي كان من المفترض أن تحمل الصوت السوري إلى العالم وتبتكر الأدوات المناسبة لتوصيله بما يتماشى مع طبيعة المجتمعات الغربية التي تخاطبها، وهي مجتمعات ديموقراطية بعامة، ذات تركيبة سياسية أفقية، ولا سيما في الولايات المتحدة حيث يشكل الرأي العام الشعبي الدينامو المحرك لحكومتها الفيدرالية وأداة للضغط عليها هي الأجدى في تحديد سياساتها الداخلية والخارجية في آن، من المؤسف أن الفهم لدى تلك التشكيلات بدا قاصراً عن استيعاب فكرة حتمية التعامل مع القاعدة الشعبية الأميركية والمواطن الأميركي العادي بالدرجة الأولى، وهو الذي يرحّب بفطرته بالحركات الثورية والتحررية في العالم، وينتصر لها ويحتضنها. غير أن التواصل على مدى سنوات ست انحصر على الحكومات والمسؤولين التنفيذيين فيها، وهم عادة ما يتغيرون بشكل متسارع في الأنظمة الديموقراطية حيث لا يبقى المسؤول الحكومي في منصبه لفترة طويلة ويتم تداول المنصب باستمرار تلافياً لتغليب المصلحة الفردية والعلاقات الخاصة التي تنسج من خلال المركز الوظيفي المستدام. أما التواصل مع الشعب الأميركي أو حتى ممثليه في الكونغرس فكان ضعيفاً إلى حد الانعدام في معظم الحالات. والأفدح من هذا كله أن هذا الأداء الساذج لم يتغير مع دخول الثورة السورية الماجدة عامها السابع، ومع تحوّل مسمياتها والتعتيم على معانيها الأصيلة إلى أن حملت اسم «الأزمة» في قواميس البعض من أطراف المعارضة.
بالطبع، التوجُّه إلى الشعوب يحتاج إلى خبرة ودراية من عاش بينها، وانفتح على ثقافتها، وعرف لغتها بالأبجديتين: اللسانية والسياسية. فالجالية الأميركية السورية، تلك التي انخرطت من بعد لكن بمصداقية وقوة في تيار التغيير الديموقراطي السلمي منذ البدايات، لم تعطَ الفرصة أو الموقع لنقل الصورة إلى مطبخ القرار وطبّاخيه الأساس من الشعب الأميركي بمؤسساته المدنية العريضة الطيف. وعلى رغم أن العديد من مثقفي الجالية وناشطيها لم يكونوا لينتظروا تكليفاً من أحد للقيام بواجبهم تجاه أرضهم الأم وشعبهم الجريح، فإنهم لم ينالوا يوماً احتضاناً حقيقياً من منظومات المعارضة التي اقتصرت على التحالفات المرحلية العابرة مع الحكومات نفسها التي تخذلها وتتنكر لها اليوم.
وإثر الضربة التي وجهتها واشنطن للنظام السوري في موقع تحميل المواد الكيماوية الضاربة في مطار الشعيرات، والتي توقعنا أن تشكل تغيراً استراتيجياً عن نهج حكومة أوباما في إدارة الملف السوري، حدث ما كان صادماً لنا من انكماش الدعم الأميركي للنشطاء والمعارضة السياسية، وسحب السلاح من أيدي المعارضة المعتدلة، وترك الدفة للرياح الروسية.
مشهد الفائزتين أعادني إلى لب المشكلة: نعم، لقد فشلنا في فهم هذا التحول الدرامي في الذهن الشعبي الأميركي في القرن الحادي والعشرين. فبعد أن كان في بدايات ومنتصف القرن الفائت يمجّد القوة والكمال والثراء، نراه اليوم في أعلى حالات تعاطفه مع المظلومية وحالات الإعاقة والفقر، منتصراً للضحية وليس للجلاد. ولو أننا تمكنا من طرح قضيتنا في مقوماتها الإنسانية وليس السياسية وحسب، لكان لدينا اليوم مخزون بشري من الداعمين الأميركيين يضغطون على الزر ليصوتوا بـ «نعم» للإنسان السوري.
المصدر : الحياة