يُستفتى أكراد إقليم كردستان العراق في موضوع تفكيك البلاد والانفصال، فلماذا تغضب تركيا أكثر من العراقيين أنفسهم، وتستعد لاتخاذ خطوات الرد المباشر على الصعد كافة؟ لماذا يعقد مجلس الأمن القومي التركي اجتماعا طارئا يعقبه اجتماع استثنائي لمجلس الوزراء التركي، يعلن قبوله لتوصيات المجلس الأمني، ردا على خطوة رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البارزاني، التصعيدية؟
من خدع الآخر، بعد غزل وإشادات وزيارات تقارب ودعم وتعاون بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والبارزاني، كادت أن تحرق ورقة المراهنين على تحريك الورقة الكردية في المنطقة؟ ما الذي دفع أردوغان ليقول بحدة “حين تقعون في مشكلة تأتون وتطرقون بابنا، وتحصلون على كل أنواع الدعم، لكنكم تسلكون طريقكم الخاص، عندما يتعلق الأمر بتقسيم العراق؟”. هي حتما خطوة أبعد من أن تكون مجرد استغلال للأجواء والظروف الإقليمية المؤاتية التي لم تسنح منذ قرن لأكراد المنطقة.
لعب البارزاني، باحتراف، ورقة تنظيم داعش ووجوده في شمال العراق، ليوسع رقعة نفوذه نحو كركوك، تحت شعار طرد الإرهابيين، وهو يريد أن يدخل التاريخ الكردي المعاصر منتقما لوالده، الملا مصطفى، الذي فشل في وضع أسس الدولة، وتحقيق حلم أكراد المنطقة، بعدما سقط ضحية المساومات والتحاصص الإقليمي، لكن تركيا أيضا بالغت في التمدد والانتشار السياسي والعسكري والاستراتيجي خارج حدودها. أغضبت كثيرين إقليميا ودوليا. لم تستسلم لسيناريو 15 يوليو/ تموز 2016، وتحريك ورقة محاولة الانقلاب العسكري في مساء ذلك اليوم. تحدّت إسرائيل في غزة، وتتدخل في الخليج، نقطة تقاطع المصالح الأكثر تشابكا، وتصعّد أمام المنابر الأممية ضد الجميع في ميانمار دفاعا عن الروهينغا، الأقلية المسلمة المنسية.. حان وقت إيقافها عند حدها، وليس هناك أفضل من تحريك الأحجار في زاوية شمال العراق هذه المرة.
تستعد أنقرة، إذن، لتهديم كل ما شيدته من مؤسسات وأبنية ومنشآت استراتيجية في أربيل في الأعوام القليلة الماضية، وتجميد عشرات من العقود والمشاريع المشتركة التي راهنت عليها، لتكون جسر تواصل تركي كردي، يساهم في تأجيل حلم الدولة.
وقد دعت عواصم عربية وغربية أربيل إلى التراجع عن قرارها أو إرجائه، لكنها كانت، في غالبيتها، دعوات كلامية شكلية، ربما يهم بعض أصحابها عدم تراجع مسعود البارزاني عما يقول، لأنه بذلك يصطاد العصافير التركية الجالسة فوق أغصان شجرة المنطقة.
سخرية القدر أن نصل إلى قناعة أن إيران وحدها من يستطيع أن يخرج أنقرة من ورطتها، ويفكّ أزمتها، فهل تقدم لتركيا هذه الخدمة؟ هل بحثت زيارة رئيس الأركان الإيراني، محمد باقري، لأنقرة أخيرا، احتمالا من هذا النوع؟ كيف ستفعل إيران ذلك؟ وما هو الثمن الذي ستطالب أنقرة به؟ هل إقناع طهران لبغداد مثلا بالتدخل العسكري المباشر في إقليم شمال العراق خطوة بين الاحتمالات المطروحة؟ هل تستطيع حكومة حيدر العبادي في بغداد مواجهة غضب واشنطن وتل أبيب، وربما موسكو وباريس ولندن، بسبب إقدامها على خطوة من هذا النوع؟
بمقدور أنقرة أن تقول إنه شأن عراقي، وتسرع في بناء مزيد من الجدران العازلة مع دول الجوار. ما يخيفها أن يرتد هذا التدبير عليها، وتتحول الألواح الإسمنتية العملاقة إلى أحجار تسد طريق التواصل مع شعوب المنطقة ودولها لاحقا. إنها تكرّر دائما أنها ستواجه قرارا أحاديا من هذا النوع بكل ما تملكه من قدرات وإمكانات، لأنها خطوة غير شرعية وغير دستورية باتجاه فرض حالة سياسية اجتماعية جديدة من هذا النوع، من دون طرحها ومناقشتها وقبولها من جميع شرائح المجتمع العراقي. ما يقلق أنقرة أيضا قوة أكراد سورية التي تنمو وتتسع في الشمال والشرق تحت الحماية الأميركية. وهنا السؤال المعروفة إجابته مسبقا: هل هناك احتمال وجود تفاهمات رباعية بين تركيا وإيران وسورية والعراق، وهي دول الانتشار الكردي المكثف على خطة عسكرية جاهزة للتدخل لوأد الحلم الكردي في مهده، وخصوصا أنها تعترض وترفض وتهدد؟
هناك من يرى في أنقرة أن انفصال كردستان قد يؤدي إلى خسائر تركية كبيرة على المستوى الاقتصادي، وأن أنقرة ستفقد طريق صادراتها المباشر نحو العراق، وعبره إلى الخليج، فما الذي ستختاره؟ الاستمرار في فتح الأبواب على وسعها تجاريا واقتصاديا أمام الإقليم، والتمسك بمصالحها التجارية مع حكومة البارزاني، وضمانة تصدير نفط كركوك عبر أراضيها، وبالتالي إغضاب بغداد على حساب إرضاء أربيل، كما فعلت في السنوات الأخيرة، أم العمل على إنقاذ وحدة العراق عبر التعاون والتنسيق مع الحكومة المركزية في بغداد؟ أو هي ستسقط في مصيدة أربيل وبغداد على السواء، وتترك وحيدة في ساحة المواجهة؟
ليس البارزاني وحده من يخطط ويقرّر، ولا يمكن لأنقرة أيضا أن تتحرك بمفردها في ملف متشابك متداخل من هذا النوع. لن تقف أنقرة مكتوفة الأيدي، لكن التوغل التركي في الملف العراقي لا بد أن يقابله الثمن الباهظ أيضا.
نتيجة الاستفتاء على استقلال كردستان العراق محسومة. الظروف المحلية والإقليمية جاهزة لقبول إرادة غالبية أكراد العراق واحترامها تحت رعاية أميركية إسرائيلية، لكن المشكلة الأكبر هي كم سيطول عمر الأزمة عند انفجارها، وكيف ستتصرف بغداد وبقية اللاعبين الإقليميين والدوليين، وأين سينصب الفخ الجديد، ولمن هذه المرة؟ يقول المثل الشعبي قطعة البوظة في اليد، من فوق الشوارب ومن تحت الذقن، ولكل شيء ثمن.
المصدر : العربي الجديد